للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عِصْمَةً بِدُونِ دَارِ الْإِسْلَامِ

. (فَصْلٌ) ثُمَّ الْأَهْلِيَّةُ ضَرْبَانِ: أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ أَمَّا الْأُولَى فَبِنَاءً عَلَى الذِّمَّةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْعَهْدُ، وَفِي الشَّرْعِ وَصْفٌ يَصِيرُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِمَا لَهُ، وَعَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: ١٧٢] هَذِهِ الْآيَةُ إخْبَارٌ عَنْ عَهْدٍ جَرَى بَيْنَ اللَّهِ، وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ، وَعَنْ إقْرَارِهِمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِرُبُوبِيَّتِهِ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِمُوجِبِ إقْرَارِهِمْ مِنْ أَدَاءِ حُقُوقٍ تَجِبُ لِلرَّبِّ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ وَصْفٍ يَكُونُونَ بِهِ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ فَيَثْبُتُ لَهُمْ الذِّمَّةُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ.

(وَقَالَ {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: ١٣] الْعَرَبُ كَانُوا يَنْسُبُونَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ إلَى الطَّائِرِ فَإِنْ مَرَّ سَانِحًا يَتَيَمَّنُونَ بِهِ وَإِنْ مَرَّ بَارِحًا يَتَشَاءَمُونَ بِهِ

ــ

[التلويح]

ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّهُ تَمْثِيلٌ وَالْمُرَادُ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّة الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الضَّلَالِ، وَالْهُدَى وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} [الإسراء: ١٣] الْآيَةُ تَمْثِيلٌ لِلُزُومِ الْعَمَلِ لَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ لِلْعُنُقِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ اسْتِعَارَةٍ فِي الْعُنُقِ عَلَى انْفِرَادِهِ كَمَا يُقَالُ جُعِلَ الْقَضَاءُ فِي عُنُقِهِ لَا يُرَادُ وَصْفٌ بِهِ صَارَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مُجَرَّدُ الْإِلْزَامِ، وَالِالْتِزَامِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ إلَى عُلَمَاءِ الْبَيَانِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: ٧٢] فَالْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ الطَّاعَةُ الْوَاجِبَةُ الْأَدَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا لِعِظَمِهَا بِحَيْثُ لَوْ عُرِضَتْ عَلَى هَذِهِ الْأَجْرَامِ الْعِظَامِ، وَكَانَتْ ذَاتَ شُعُورٍ وَإِدْرَاكٍ لَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ مَعَ ضَعْفِ بِنْيَتِهِ، وَرَخَاوَةِ قُوَّتِهِ لَا جَرَمَ فَإِذَا الرَّاعِي لَهَا، وَالْقَائِمُ بِحُقُوقِهَا بِخَيْرِ الدَّارَيْنِ أَنَّهُ كَانَ ظَلُومًا حَيْثُ لَمْ يَفِ بِهَا، وَلَمْ يُرَاعِ حُقُوقَهَا جَهُولًا بِكُنْهِ عَاقِبَتِهَا، وَهَذَا وَصْفٌ لِلْجِنْسِ بِاعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ، وَقِيلَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَجْرَامَ خَلَقَ فِيهَا فَهْمًا، وَقَالَ لَهَا إنِّي فَرَضْتُ فَرِيضَةً، وَخَلَقْتُ جَنَّةً لِمَنْ أَطَاعَنِي وَنَارًا لِمَنْ عَصَانِي فَقُلْنَ نَحْنُ مُسَخَّرَاتٌ عَلَى مَا خُلِقْنَا لَا نَحْمِلُ فَرِيضَةً، وَلَا نَبْغِي ثَوَابًا، وَلَا عِقَابًا، وَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَرَضَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَحَمَلَهُ، وَكَانَ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ بِتَحَمُّلِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا جَهُولًا بِوَخَامَةِ عَاقِبَتِهِ، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ الْعَقْلُ وَالتَّكْلِيفُ، وَعَرَضُهَا عَلَيْهِنَّ اعْتِبَارُهَا بِالْإِضَافَةِ إلَى اسْتِعْدَادِهِنَّ، وَإِبَاؤُهُنَّ عَدَمُ اللِّيَاقَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَحَمَلَ الْإِنْسَانَ قَابِلِيَّتُهُ وَاسْتِعْدَادُهُ، وَكَوْنُهُ ظَلُومًا جَهُولًا لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، وَالشَّهَوِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحَمْلِ عَلَيْهِ فَإِنَّ مِنْ فَوَائِدِ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ مُهَيْمِنًا عَلَى الْقُوَّتَيْنِ حَافِظًا لَهُمَا عَنْ التَّعَدِّي، وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ، وَالْعِظَمِ. مَقَاصِدُ التَّكْلِيفِ تَعْدِيلُهُمَا، وَكَسْرُ سَوْرَتِهِمَا فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ وَصْفًا بِهِ يَصِيرُ أَهْلًا لِمَا عَلَيْهِ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ دَلَالَةٍ لِلْعِتْقِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِعَارَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْكَلَامِ، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مَبْنَى هَذِهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَلْزَمُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>