فَاسْتُعِيرَ الطَّائِرُ لِمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَبَبٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدَرُهُ، وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا وَسِيلَةٌ لَهُمْ إلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَالْمَعْنَى أَلْزَمْنَاهُ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍ، وَأَلْزَمْنَاهُ عَمَلَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ أَوْ الْغُلِّ الْعُنُقَ أَيْ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ أَبَدًا فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ لِلْإِنْسَانِ فَمَحَلُّ ذَلِكَ اللُّزُومُ، وَهُوَ الذِّمَّةُ فَقَوْلُهُ فِي عُنُقِهِ اسْتَعَارَ الْعُنُقَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي بِهِ يَلْزَمُ التَّكْلِيفُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ أَوْ الْغُلِّ الْعُنُقَ.
(وَقَالَ: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: ٧٢] فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِيَّةِ الْإِنْسَانِ بِحَمْلِ أَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ أَيْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ وَصْفًا هُوَ بِهِ يَصِيرُ أَهْلًا لِمَا عَلَيْهِ وَقَدْ فَسَّرَ الذِّمَّةَ بِوَصْفٍ يَصِيرُ هُوَ بِهِ أَهْلًا لِمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَصْفٍ يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِمَا لَهُ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا إثْبَاتُ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ هَذَا كَافِيًا فِي إثْبَاتِ الْمَقْصُودِ، وَأَمَّا الدَّلَائِلُ
ــ
[التلويح]
وَيَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ وَصْفٍ بِهِ يَصِيرُ أَهْلًا لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى هَذِهِ التَّكَالِيفِ بَلْ دَلَالَةُ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: ٤٣] عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَظْهَرُ، وَكَذَا ثُبُوتُ الْحُقُوقِ لَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ وَصْفًا هُوَ الذِّمَّةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِذَاتِ الْإِنْسَانِ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّزْقِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْإِنْسَانِ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الذِّمَّةِ لِكُلِّ دَابَّةٍ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ مَرَّ سَانِحًا) السَّانِحُ مَا وَلَّاكَ مَيَامِنَهُ أَيْ يَمُرُّ مِنْ مَيَاسِرِكَ إلَى مَيَامِنِكَ وَالْبَارِحُ بِالْعَكْسِ، وَالْعَرَبُ تَتَطَيَّرُ بِالْبَارِحِ، وَتَتَفَاءَلُ بِالسَّانِحِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَرْمِيَهُ حَتَّى يَنْحَرِفَ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ اُسْتُعِيرَ الطَّائِرُ لِمَا هُوَ سَبَبُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدَرِهِ، وَعَمَلِ الْعَبْدِ فَإِنَّ مَا قُدِّرَ لِلْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ طَائِرٍ يَطِيرُ إلَيْهِ مِنْ عُشِّ الْغَيْبِ وَوَكْرِ الْقَدَرِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ التَّسَامُحِ حَيْثُ جَعَلَ الطَّائِرَ اسْتِعَارَةً لِسَبَبِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَيْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ، ثُمَّ قَالَ فَالْمَعْنَى أَلْزَمْنَاهُ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ، وَشَرٍّ فَجُعِلَ الطَّائِرُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ الْمَقْضِيِّ بِهِ ثُمَّ الْقَضَاءُ هُوَ الْحُكْمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَمْرُ أَوَّلًا، وَالْقَدَرُ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَالتَّفْصِيلُ بِالْإِظْهَارِ، وَالْإِيجَادُ ثَانِيًا، وَفِي كَلَامِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُجْتَمِعَةً مُجْمَلَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ، وَالْقَدَرُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِهَا مُفَصَّلَةً مُنَزَّلَةً فِي الْأَعْيَانِ بَعْدَ حُصُولِ الشَّرَائِطِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: ٢١] وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا يُقَالُ إنَّ الْقَضَاءَ مَا فِي الْعِلْمِ وَالْقَدَرَ مَا فِي الْإِرَادَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ فَهُنَاكَ شَيْئَانِ: الْإِرَادَةُ وَالْقَوْلُ فَالْإِرَادَةُ قَضَاءٌ، وَالْقَوْلُ قَدَرٌ.
(قَوْلُهُ: فَقَبْلَ الْوِلَادَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْجَنِينَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ عَنْ الْأُمِّ جُزْءٌ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهَا، وَيَقِرُّ بِقَرَارِهَا وَمُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ التَّفَرُّدِ بِالْحَيَاةِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلِانْفِصَالِ فَيَكُونُ لَهُ ذِمَّةٌ مِنْ وِجْهَةٍ حَتَّى يَصِلَ وُجُوبُ الْحُقُوقِ لَهُ كَالْإِرْثِ، وَالْوَصِيَّةِ وَالنَّسَبِ لَا لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْوَلِيُّ لَهُ شَيْئًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute