للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْغَمُوسِ بِقَوْلِهِ (وَيَأْثَمُ بِهَا) أَيْ الْحَالِفُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ النَّارَ» .

(وَ) ثَانِيهَا الْيَمِينُ (اللَّغْوُ) سُمِّيَتْ بِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا يُعْتَبَرُ بِهَا فَإِنَّ اللَّغْوَ اسْمٌ لِمَا لَا يُفِيدُ يُقَالُ لَغَا إذَا أَتَى بِشَيْءٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ (وَهِيَ حَلِفُهُ كَاذِبًا يَظُنُّهُ صَادِقًا) كَمَا إذَا حَلَفَ أَنَّ فِي هَذَا الْكُوزِ مَاءً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رَآهُ كَذَلِكَ ثُمَّ أُرِيقَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ وَبَيَّنَ حُكْمَهَا بِقَوْلِهِ (وَيُرْجَى عَفْوُهُ) فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى تَعْلِيقُ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالرَّجَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: ٨٩] قُلْنَا نَعَمْ لَا شَكَّ فِي نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ وَإِنَّمَا الشَّكُّ فِي كَوْنِ الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَغْوًا فَإِنَّ اللَّغْوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ بِلَا قَصْدٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَاضِي أَوْ الْآتِي بِأَنْ قَصَدَ التَّسْبِيحَ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ مَثَلًا.

(وَ) الثَّالِثُ الْيَمِينُ (الْمُنْعَقِدَةُ وَهِيَ حَلِفُهُ عَلَى شَيْءٍ آتٍ) فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِعْلًا كَانَ أَوْ تَرْكًا، قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت الْحَلِفُ كَمَا يَكُونُ عَلَى الْمَاضِي وَالْآتِي يَكُونُ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا فَلِمَ لَمْ يَذْكُرْهُ وَهُوَ مِنْ أَيِّ أَقْسَامِ الْحَلِفِ قُلْت: إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِمَعْنًى دَقِيقٍ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ يَحْصُلُ أَوَّلًا فِي النَّفْسِ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ الْمُتَعَلِّقَ بِزَمَانِ الْحَالِ إذَا حَصَلَ فِي النَّفْسِ وَعُبِّرَ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَإِذَا تَمَّ التَّعْبِيرُ بِاللِّسَانِ انْعَقَدَ الْيَمِينُ بِزَمَانِ الْحَالِ صَارَ مَاضِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَانِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَإِذَا قَالَ: كَتَبْت لَا بُدَّ مِنْ الْكِتَابَةِ قَبْلَ ابْتِدَاءِ التَّكَلُّمِ، وَإِذَا قَالَ: سَوْفَ أَكْتُبُ لَا بُدَّ مِنْ الْكِتَابَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّكَلُّمِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي مِنْ ابْتِدَاءِ التَّكَلُّمِ إلَى آخِرِهِ فَهُوَ زَمَانُ الْحَالِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَهُوَ مَاضٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى آنِ الْفَرَاغِ وَهُوَ آنُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَيَكُونُ الْحَلِفُ عَلَيْهِ حَلِفًا عَلَى الْمَاضِي أَقُولُ حَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ مَا يُظَنُّ مِنْ كَوْنِ الْحَلِفِ عَلَى الْحَالِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ حَلِفٌ عَلَى الْمَاضِي وَلَا يُوجَدُ الْحَلِفُ عَلَى الْحَالِ حَقِيقَةً وَلِذَا لَمْ يَذْكُرُوهُ وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْحَالَ الْمُقَابِلَ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ رَضِيُّ الدِّينِ وَتَبِعَهُ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَجْزَاءٌ مِنْ أَوَاخِرِ الْمَاضِي وَأَوَائِلِ الْمُسْتَقْبَلِ يُعْتَبَرُ امْتِدَادُهَا بِحَسَبِ الْعُرْفِ حَتَّى قَالُوا إنَّ زَيْدًا إذَا صَلَّى فَهُوَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ مَا دَامَ مُصَلِّيًا وَإِذَا كَتَبَ فَهُوَ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ مَا دَامَ كَاتِبًا فَإِذَا قَالَ زَيْدٌ حِينَ كِتَابَتِهِ: وَاَللَّهِ إنِّي كَاتِبٌ يَكُونُ يَمِينًا عَلَى الْحَالِ بِلَا مِرْيَةٍ وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ مَاضِيًا فَالسُّؤَالُ بَاقٍ بَلْ الصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ لَا وَجْهَ لِهَذَا السُّؤَالِ بَعْدَ مَا قَالَ أَوَّلًا: إنَّ مُطْلَقَ الْيَمِينِ أَكْثَرُ مِنْ الثَّلَاثِ فَتَدَبَّرْ وَبَيَّنَ حُكْمَ الْمُنْعَقِدَةِ بِقَوْلِهِ (وَكَفَّرَ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْقَسَمِ (فَقَطْ) أَيْ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: ٨٩] الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: ٨٩] وَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِفْظُ عَنْ الْحِنْثِ وَالْهَتْكِ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ (إنْ حَنِثَ) الْحَالِفُ وَقَوْلُهُ فَقَطْ إشَارَةٌ إلَى خِلَافِ الشَّافِعِيِّ فِي الْغَمُوسِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِيهَا أَيْضًا عِنْدَهُ (وَلَوْ) كَانَ الْحَالِفُ (مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا) أَيْ مُخْطِئًا كَمَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: اسْقِنِي الْمَاءَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ وَقِيلَ ذَاهِلًا عَنْ التَّلَفُّظِ بِهِ بِأَنْ قِيلَ لَهُ أَلَا تَأْتِينَا، فَقَالَ: بَلَى وَاَللَّهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْيَمِينِ وَإِنَّمَا وَجَبَ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْيَمِينُ»

ــ

[حاشية الشرنبلالي]

قَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّغْوَ اسْمٌ لِمَا لَا يُفِيدُ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا لَغْوَ فِي الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ لِمَا قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ، رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَكُونُ اللَّغْوُ إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ كَمَا قَالَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَغَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَالْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَلْغُو الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ عَبْدُهُ حُرٌّ وَعَلَيْهِ حَجٌّ فَيَلْزَمُهُ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَيُرْجَى عَفْوُهُ) كَذَا عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ حَيْثُ قَالَ: نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهَا صَاحِبَهَا (قَوْلُهُ: قُلْنَا. . . . إلَخْ) أَحَدُ مَا قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ التَّعْلِيقِ بِالرَّجَاءِ مَعَ الْقَاطِعِ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ اللَّغْوَ بِالتَّفْسِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فَلَمْ يَتِمَّ الْعُذْرُ عَنْ التَّعْلِيقِ بِالرَّجَاءِ فَالْأَوْجُهُ مَا قِيلَ: أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّعْلِيقَ بَلْ التَّبَرُّكَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّأَدُّبَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، كَذَا فِي الْفَتْحِ، وَالِاخْتِيَارِ.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ قُلْت. . . إلَخْ) كَيْفَ يَتَأَتَّى هَذَا السُّؤَالُ مَعَ قَوْلِ صَاحِبِ الِاخْتِيَارِ الْيَمِينُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَاضِي أَوْ عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمَاضِي أَوْ عَلَى الْحَالِ فَإِمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ الْكَذِبَ فِيهَا وَهِيَ الْأُولَى أَيْ الْغَمُوسُ أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ وَهِيَ الثَّانِيَةُ أَيْ اللَّغْوُ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَهِيَ الثَّالِثَةُ الْمُنْعَقِدَةُ اهـ.

(قَوْلُهُ: بَلْ الصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ. . . إلَخْ) يُفِيدُ الْجَوَابُ عَنْ عَدَمِ ذِكْرِ الْحَلِفِ عَلَى الْحَالِ وَلَا يُفِيدُ بَيَانَ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْأَقْسَامِ وَيُعْلَمُ حُكْمُهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الِاخْتِيَارِ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدَ الْكَذِبِ فَهِيَ الْغَمُوسُ أَوْ لَا فَهِيَ اللَّغْوُ (قَوْلُهُ: أَيْ مُخْطِئًا) فُسِّرَ بِهِ النَّاسِي؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ نَاسِيًا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَحْلِفَ ثُمَّ نَسِيَ فَحَلَفَ وَعَلَى تَفْسِيرِهِ النِّسْيَانَ بِهَذَا هُنَا وَفِي الْحِنْثِ بِحَقِيقَتِهِ يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا وَجَبَ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . إلَخْ) كَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ.

وَقَالَ الْكَمَالُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ جَعْلُ الْهَزْلِ بِالْيَمِينِ جِدًّا، وَالْهَازِلُ قَاصِدٌ لِلْيَمِينِ

<<  <  ج: ص:  >  >>