للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْآيَةَ (وَلَمْ يُكَفَّرْ قَبْلَ حِنْثٍ) يَعْنِي لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ إذَا كَانَتْ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ يُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ، وَالْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ جَائِزٌ اتِّفَاقًا فَأَشْبَهَ التَّكْفِيرَ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَسْتُرُ الْجِنَايَةَ وَلَا جِنَايَةَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِنْثِ فَيَكُونُ هُوَ السَّبَبُ دُونَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَرْتَبَةِ السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى الْحُكْمِ، وَالْيَمِينُ غَيْرُ مُفْضِيَةٍ إلَى الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ نَقْضِهَا بِالْحِنْثِ وَإِنَّمَا أُضِيفَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِحِنْثٍ بَعْدَ الْيَمِينِ كَمَا تُضَافُ الْكَفَّارَةُ إلَى الصَّوْمِ بِخِلَافِ الْجُرْحِ؛ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى الْمَوْتِ.

(حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ كَعَدَمِ الْكَلَامِ مَعَ أَبِيهِ) وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ (حَنِثَ وَكَفَّرَ) أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ وَيُكَفِّرَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ لِيَمِينِهِ» (لَا كَفَّارَةَ فِي حِنْثِ كَافِرٍ وَإِنْ حَنِثَ مُسْلِمًا) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكُفْرُ يُنَافِي التَّعْظِيمَ وَلَا أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَإِنْ تَبِعَهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ.

(مَنْ حَرَّمَ مِلْكَهُ لَا يَحْرُمُ) أَيْ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ لَمْ يَصِرْ حَرَامًا عَلَيْهِ (وَإِنْ اسْتَبَاحَهُ) أَيْ عَامَلَهُ مُعَامَلَةَ الْمُبَاحِ (كَفَّرَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ إلَّا فِي النِّسَاءِ وَالْجَوَارِي؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ، وَالْيَمِينُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ فَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظٍ هُوَ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ كَعَكْسِهِ وَهُوَ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: ١] إلَى قَوْله تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: ٢] ثُمَّ قِيلَ حَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَقِيلَ حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالتَّمَسُّكُ عَلَى الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ.

(كُلُّ حِلٍّ) أَيْ إذَا قَالَ الرَّجُلُ: كُلُّ حِلٍّ (عَلَيَّ حَرَامٌ) يُحْمَلُ (عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ) إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ عَقِيبَ فَرَاغِهِ لِمُبَاشَرَتِهِ فِعْلًا مُبَاحًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ أَوْ نَحْوُهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ زُفَرُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْبِرُّ لَا يَحْصُلُ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ يُصْرَفُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِلْعُرْفِ (وَالْفَتْوَى عَلَى بَيْنُونَةِ امْرَأَتِهِ بِلَا نِيَّةٍ) لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ

ــ

[حاشية الشرنبلالي]

قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَسْتُرُ الْجِنَايَةَ وَلَا جِنَايَةَ هَا هُنَا) أَيْ فِيمَا قَبْلَ الْحِنْثِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهَا) أَيْ الْجِنَايَةَ تَحْصُلُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِنْثِ كَوْنُ الْحِنْثِ جِنَايَةً مُطْلَقًا لَيْسَ وَاقِعًا إذْ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا وَإِنَّمَا أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ إحْلَافِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِسَبَبِ الْحِنْثِ سَوَاءٌ كَانَ بِهِ مَعْصِيَةٌ أَوْ لَا، وَالْمُرَادُ تَوْقِيرُ مَا يَجِبُ لِاسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ السَّبَبَ الْحِنْثُ كَذَا فِي الْفَتْحِ (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا أُضِيفَ إلَيْهَا. . . إلَخْ) إضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ إضَافَةٌ إلَى الشَّرْطِ مَجَازًا، كَمَا فِي الْفَتْحِ.

(قَوْلُهُ: أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ) أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْنَثَ وَيُكَفِّرُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ مِنْهُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ الْحِنْثُ أَفْضَلَ كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ نَحْوَ شَهْرٍ، وَالْحَلِفِ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ وَهُوَ يَسْتَأْهِلُ ذَلِكَ أَوْ لَيَشْكُوَنَّ مَدْيُونَهُ إنْ لَمْ يُوَافِهِ غَدًا؛ لِأَنَّ الرِّفْقَ أَيْمَنُ، وَالْعَفْوَ أَفْضَلُ وَكَذَا تَيْسِيرُ الْمُطَالَبَةِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ الْبِرُّ أَوْلَى كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ أَكْلِ هَذَا الْخُبْزِ، وَلُبْسِ هَذَا الثَّوْبِ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: ٨٩] عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي تَأْوِيلِهَا أَنَّ الْبِرَّ فِيهَا أَمْكَنَ اهـ

كَذَا فِي الْفَتْحِ وَبَقِيَ قِسْمٌ رَابِعٌ وَهُوَ مَا يَكُونُ الْبِرُّ فِيهِ فَرْضًا كَحَلِفِهِ لَيُصَلِّيَنَّ ظُهْرَ الْيَوْمِ ذَكَرَهُ فِي الْبَحْرِ (قَوْلُهُ: وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى كَافِرٍ) كَذَا لَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ حَلِفِهِ ثُمَّ حَنِثَ بَعْدَ إسْلَامِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْقَاضِي وَنَحْوُهُ فَالْمُرَادُ بِهِ صُورَةُ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا رَجَاءُ النُّكُولِ فَإِنَّ الْكَافِرَ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْفَتْحِ.

(قَوْلُهُ: مَنْ حَرَّمَ مِلْكَهُ) لَيْسَ قَيْدًا بَلْ الْمُرَادُ بِهِ شَيْءٌ مَا مِنْ الْأَشْيَاءِ سَوَاءٌ كَانَ مِلْكَهُ أَوْ غَيْرَهُ لِيَشْمَلَ الْأَعْيَانَ وَالْأَفْعَالَ وَمَا كَانَ حَلَالًا وَمَا كَانَ حَرَامًا كَقَوْلِهِ: كَلَامُك عَلَيَّ حَرَامٌ وَقَوْلِهَا لِزَوْجِهَا: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَرَّمْتُك فَجَامَعَهَا طَائِعَةً أَوْ مُكْرَهَةً حَنِثَ وَدُخُولُ مَنْزِلِك عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ الْخَمْرُ عَلَيَّ حَرَامٌ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ بَلْ أَرَادَ الْيَمِينَ، كَمَا فِي الْفَتْحِ (قَوْلُهُ: أَيْ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ) قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ حُرْمَتَهُ مُعَلَّقَةً عَلَى فِعْلِهِ فَلَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْت هَذَا الطَّعَامَ فَهُوَ حَرَامٌ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ، كَمَا فِي الْبَحْرِ عَنْ الْخُلَاصَةِ.

(قَوْلُهُ:، وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ تَبِينُ امْرَأَتُهُ. . . إلَخْ) قَالَ الْبَزْدَوِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ: هَكَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي عُرْفُ النَّاسِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَا امْرَأَةَ لَهُ يَحْلِفُ بِهِ كَمَا يَحْلِفُ ذُو الْحَلِيلَةِ وَلَوْ كَانَ الْعُرْفُ مُسْتَفِيضًا فِي ذَلِكَ لَمَا اسْتَعْمَلَهُ إلَّا ذُو الْحَلِيلَةِ فَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَيَّدَ الْجَوَابُ فِي هَذَا وَنَقُولُ إنْ نَوَى الطَّلَاقَ يَكُونُ طَلَاقًا فَإِمَّا مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَقِفَ الْإِنْسَانُ فِيهِ وَلَا يُخَالِفُ الْمُتَقَدِّمِينَ اهـ.

نَقَلَهُ الْكَمَالُ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ لَمْ يَتَعَارَفْ فِي دِيَارِنَا بَلْ التَّعَارُفُ فِيهِ حَرَامٌ عَلَيَّ كَلَامُكَ وَنَحْوُهُ كَأَكْلِهِ كَذَا وَلُبْسِهِ دُونَ الصِّيغَةِ الْعَامَّةِ وَتَعَارَفُوا أَيْضًا الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ بَعْدَهُ: لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ لَأَفْعَلَنَّ وَهُوَ مِثْلُ تَعَارُفِهِمْ الطَّلَاقَ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهِيَ طَالِقٌ وَيَجِبُ إمْضَاؤُهُ عَلَيْهِمْ اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>