الْمَانِعِ مِنْ الْقَبْضِ وَهُوَ فِعْلُ الْمُسَلِّمِ دُونَ الْمُتَسَلِّمِ، وَالْقَبْضُ فِعْلُ الْمُتَسَلِّمِ (كَالْبَيْعِ) أَيْ كَمَا أَنَّ التَّخْلِيَةَ فِيهِ أَيْضًا قَبْضٌ.
اعْتَرَضَ عَلَى الْقَوْمِ بِأَنَّ التَّخْلِيَةَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكْفِيَ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ إذْ الْقَبْضُ مَنْصُوصٌ فِي الرَّهْنِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ حَتَّى اسْتَدَلُّوا عَلَى شَرْطِيَّةِ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: ٢٨٣] ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمَنْصُوصَ يُرَاعَى وُجُودُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْجِهَاتِ أَقُولُ الْمَنْصُوصُ إنَّمَا يُرَاعَى وُجُودُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْجِهَاتِ إذَا نُصَّ عَلَيْهِ بِالِاسْتِقْلَالِ، وَأَمَّا إذَا ذُكِرَ تَبَعًا لِلْمَنْصُوصِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُرَاعَى وُجُودُهُ كَمَا ذُكِرَ فَإِنَّ التَّرَاضِيَ فِي الْبَيْعِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٩] فَلَوْ صَحَّ مَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ لَبَطَلَ بَيْعُ الْمُكْرَهِ، وَلَمْ يَفْسُدْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي.
(وَلَوْ هَلَكَ) أَيْ الرَّهْنُ اعْلَمْ أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ مَحْضَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَمْ يَجْعَلْهُ مَضْمُونًا وَعِنْدَنَا أَمَانَةٌ، لَكِنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ اسْتِيفَاءٍ وَيَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَحْصُلُ مِنْ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَالِاسْتِيفَاءُ بِالْعَيْنِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ يَكُونُ اسْتِبْدَالٌ، وَالْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفٍ لَا مُسْتَبْدِلٌ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الِاسْتِيفَاءُ بِحَبْسِ الْحَقِّ وَالْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَكَانَ هُوَ أَمِينًا فِي الْعَيْنِ كَالْكِيسِ فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ نَفَقَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ فِي حَيَاتِهِ وَكَفَنُهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَهَذَا مَعْنَى «قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ غُرْمُهُ» فَإِذَا هَلَكَ الرَّهْنُ (ضَمِنَ) أَيْ الْمُرْتَهِنُ (بِالْأَقَلِّ) يَجِبُ تَعْرِيفُهُ بِاللَّامِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ كَوْنُ مِنْ فِي قَوْلِهِ (مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ) تَفْصِيلِيَّةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بَيَانِيَّةٌ وَالْمَعْنَى بِالْأَقَلِّ الَّذِي هُوَ مِنْ هَذَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَيِّهِمَا كَانَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسَخِ الْوِقَايَةِ مُنَكَّرًا (وَلَوْ اسْتَوَيَا) أَيْ الدَّيْنُ وَقِيمَةُ الرَّهْنِ (سَقَطَ دَيْنُهُ) أَيْ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ، (وَلَوْ) كَانَتْ (قِيمَتُهُ) أَيْ الرَّهْنِ (أَكْثَرَ) مِنْ الدَّيْنِ (فَالْفَضْلُ أَمَانَةٌ) ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَهُوَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ (وَلَوْ) كَانَتْ (أَقَلَّ) مِنْهُ (سَقَطَ) مِنْ الدَّيْنِ (قَدْرُهُ وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالْفَضْلِ) ، مَثَلًا إذَا رَهَنَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ سَقَطَ دَيْنُهُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ خَمْسَةً يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِخَمْسَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالْفَضْلُ أَمَانَةٌ (وَضَمِنَ) أَيْ الْمُرْتَهِنُ (بِدَعْوَى الْهَلَاكِ بِلَا بَيِّنَةٍ) يَعْنِي إذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ ضَمِنَ إنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ (مُطْلَقًا) ، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَبِيدِ وَالْعَقَارِ، أَوْ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحُلِيِّ وَالْعُرُوضِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَضْمَنُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَقَطْ.
(لَهُ) أَيْ لِلْمُرْتَهِنِ (طَلَبُ دَيْنِهِ مِنْ رَاهِنِهِ) ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُسْقِطُ طَلَبَ الدَّيْنِ، (وَ) لَهُ (حَبْسُهُ بِهِ) أَيْ الرَّاهِنِ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ بَعْدَ الرَّهْنِ، وَالْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ فَإِذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ عِنْدَ الْقَاضِي يَحْبِسُهُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ، (وَ) لَهُ أَيْضًا حَبْسُ (رَهْنِهِ بَعْدَ الْفَسْخِ حَتَّى يَقْبِضَ دَيْنَهُ أَوْ يُبْرِئَهُ) ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ الْفَسْخِ
ــ
[حاشية الشرنبلالي]
قَوْلُهُ بِالْأَقَلِّ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ) أَقُولُ وَلِذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ بِأَقَلَّ بِدُونِ الْأَلْفِ وَاللَّامِ وَهُوَ خَطَأٌ، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِقَوْلِ الرَّجُلِ مَرَرْت بِأَعْلَمَ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو يَكُونُ الْأَعْلَمُ غَيْرَهُمَا، وَلَوْ كَانَ بِالْأَعْلَمِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو يَكُونُ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّمْيِيزِ اهـ.
وَقَالَ فِي الْمُوَصِّلِ شَرْحِ الْمُفَصَّلِ إنَّ مِنْ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ التَّفْضِيلِيَّةِ الَّتِي لَا تُجَامِعُ اللَّامَ وَإِنَّمَا هِيَ التَّنْبِيهِيَّةُ فِي قَوْلِك أَنْتَ الْأَفْضَلُ مِنْ قُرَيْشٍ، كَمَا تَقُولُ أَنْتَ مِنْ قُرَيْشٍ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ اهـ.
كَذَا فِي مَجْمَعِ الرِّوَايَاتِ شَرَحَ الْقُدُورِيُّ (قَوْلَهُ يَعْنِي إذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ ضَمِنَ) يَعْنِي الرَّهْنَ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ إنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ) جَعَلَهُ شَرْطًا لِلُزُومِ الضَّمَانِ يُوهِمُ بِمَفْهُومِهِ انْتِفَاءَ الضَّمَانِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، وَرُبَّمَا أَوْهَمَتْ عِبَارَتُهُ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْهَلَاكِ بِلَا بَيِّنَةٍ، وَلَيْسَ مُرَادًا إذْ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ ثُبُوتِ الْهَلَاكِ بِالْبَيِّنَةِ وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ بِقَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكُونُ الرَّهْنُ فِي الصُّورَتَيْنِ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَقَوْلُ مُحَشِّي الدُّرَرِ الْعَلَّامَةِ الْوَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الظَّاهِرُ أَنَّ كَلِمَةَ أَنْ هَاهُنَا وَصْلِيَّةٌ لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَعَلَى تَسْلِيمِهِ يَحْتَاجُ لِتَأْوِيلِ كَوْنِ أَنْ وَصْلِيَّةً وَكَوْنِ الضَّمَانِ لَيْسَ إلَّا ضَمَانَ الرَّهْنِ لَا مُطْلَقَ الضَّمَانِ، وَكَذَا وَقَعَ الْإِيهَامُ فِي عِبَارَةِ ابْنِ الْمَلَكِ شَارِحِ الْمَجْمَعِ حَيْثُ قَالَ يَعْنِي إذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ وَلَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ ضَمِنَهُ عِنْدَنَا اهـ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ ظَاهِرَهُ، وَمَتْنُ الْمَجْمَعِ وَشَرْحِهِ لِمُصَنَّفِهِ لَا إيهَامَ فِيهِمَا، وَقَدْ أَوْضَحَ الْحُكْمَ وَأَزَالَ الْإِيهَامَ فِي الْحَقَائِقِ شَرْحِ مَنْظُومَةِ النَّسَفِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقِيمَةُ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ إذَا ادَّعَى الْهَلَاكَ، وَلَمْ يُبَرْهِنْ ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ عِنْدَهُ أَيْ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُودِعَ لَوْ ادَّعَى هَلَاكَ الْوَدِيعَةِ، وَلَمْ يَقُلْ هَلَكَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ لِي لَا يُصَدَّقُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا يُصَدَّقُ، وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ بِقَدْرِهِ، وَالْبَاقِي لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اهـ.
وَقَدْ ذَكَرْت هَذَا فِي ضِمْنِ رِسَالَةٍ مُسَمَّاةٍ بِغَايَةِ الْمَطْلَبِ فِي الرَّهْنِ إذَا ذَهَبَ