للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نَفْسِهِ بَاطِلٍ وَضْعُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمَرْجُوحِ إلَى الرَّاجِحِ الَّذِي لَمْ يُوقَفْ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَقِرَّ وَقْفٌ أَبَدًا حَتَّى يَكُونَ عَلَى أَرْجَحِ الْجِهَاتِ وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَوْلُهُ أَنَّ الشَّرْعَ يُدِيرُ الْأَحْكَامَ عَلَى مَقَاصِدِ الْعُقُودِ غَالِبًا أَوْ أَكْثَرَ مَا قَدْ تَشَاحَحَ فِيهِ وَيُقَالُ: إنَّهُ إنَّمَا يُدِيرُهُ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا وَدَلَالَاتِ أَلْفَاظِهَا وَقَدْ يَسْلَمُ لَهُ وَلَا يَنْفَعُهُ لِمَا سَنُبَيِّنُ أَنَّ مَقْصُودَ هَذَا الْوَقْفِ هُوَ إقَامَةُ الْعِلْمِ بِالْجَامِعِ الْمَذْكُورِ لَا غَيْرُهُ.

وَقَوْلُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَلَاةً بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ هُنَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّ تَدْرِيسَ الْعِلْمِ فِي بُقْعَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَشْرُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَشُيُوعُهُ بَيْنَ أَهْلِهِ وَرُبَّمَا يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ لَا يَحْضُرُ فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ وَنَشْرُ الْعِلْمِ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ مَطْلُوبٌ وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ قُطْرٍ مَنْ يُفْتِي النَّاسَ وَيُعَلِّمُهُمْ وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ وَكَانَ فِي تَدْرِيسِ الْعِلْمِ فِي بُقْعَةٍ مَسْجِدًا كَانَتْ أَوْ مَدْرَسَةً أَوْ غَيْرَهَا حَقٌّ لِأَهْلِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَلِمَا حَوْلَهَا فَنَقْلُهُ إلَى غَيْرِهَا يُفَوِّتُ حَقَّهُمْ فَلَا يَجُوزُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ الْبُقْعَةُ الْمَنْقُولُ إلَيْهَا مِثْلَ الْبُقْعَةِ الْأُولَى أَوْ دُونَهَا أَمْ أَفْضَلَ مِنْهَا.

وَلَوْ كَانَ نَشْرُ الْعِلْمِ فِي الْمَكَانِ الْفَاضِلِ يَكْفِي عَنْ نَشْرِهِ فِي الْمَكَانِ الْمَفْضُولِ لَكَفَى النَّاسَ كُلَّهُمْ نَشْرُهُ فِي مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَجِبْ نَشْرُهُ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْبِلَادِ وَهُوَ خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَخِلَافُ قَوْله تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: ١٢٢] الْآيَةُ إذَا فَسَّرْنَاهَا بِالنَّفِيرِ إلَى الْعِلْمِ وَخِلَافُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْجِعُوا إلَى أَهْلِيكُمْ فَمُرُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ» ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَقَرُّبُ الْمُصَلِّي فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَارُبُهَا بِمَعْنَى زِيَادَةِ حُصُولِ فَضْلِهِ لَهُ فِيهَا وَلِذَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ فِي غَيْرِهَا سَوَاءٌ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ غَيْرُ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَكَفَى إقَامَتُهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ.

وَمِنْ هَذَا الْفَرْقِ نَأْخُذُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ فِي بَلَدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ تَعْلِيمُهُ فِي بَلَدٍ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ الَّذِي نَذَرَ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ فِيهِ كَثِيرَ الْعُلَمَاءِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَأَرَادَ تَعْلِيمَهُ فِي بَلَدٍ لَا عِلْمَ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ نَفْعَ الْعِلْمِ عَائِدٌ إلَى النَّاسِ وَلَا أَثَرَ لِشَرَفِ الْبُقْعَةِ فِيهِ فَقَدْ بَانَ تَفَاوُتُ الْغَرَضَيْنِ، وَكَمَا أَنَّا نُرَاعِي إقَامَةَ الْعِلْمِ فِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ وَنَطْلُبُ شُمُولَ التَّعْلِيمِ فِيهِمَا كَيْ لَا يَخْرُجَ أَهْلُهَا فِي الِانْتِقَالِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ أَوْ يَتَعَطَّلَ الْعِلْمُ لِذَلِكَ نُرَاعِي الْأَمَاكِنَ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ مَحَلَّةٍ قَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الِانْتِقَالُ إلَى غَيْرِهَا بَلْ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ فَطِبَاعُ النَّاسِ فِي الْعَادَةِ تَقْتَضِي أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِهِمْ رَغْبَةٌ قَوِيَّةٌ فِي طَلَبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>