الْحَرَامِ أَوَّلًا ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ حَرَامٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكِنَايَاتِ بَوَائِنٌ وَأَرَادَتْ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى حَاكِمٍ حَنَفِيٍّ وَحَكَمَ بِالْبَيْنُونَةِ فَنَقُولُ: إنَّهُ لَنْ يَجِدَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ الشَّافِعِيَّ حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ خَاطَبَهَا بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ حَالَ الْحُكْمِ فَخَاطَبَهَا بِذَلِكَ بَلْ يَسْتَنِدُ فِي بَقَاءِ الْعِصْمَةِ أَنَّهَا بَائِنَةٌ عِنْدَهُ عَلَى النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ خَاطَبَهَا بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ مُرِيدًا الطَّلَاقَ، ثُمَّ رَاجَعَ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ النَّقِيضَيْنِ مُسَوِّغٌ لِلشَّافِعِيِّ الْحُكْمَ بِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ، وَقَدْ حَكَمَ بِذَلِكَ مُسْتَنِدًا إلَى أَحَدِهِمَا فَلَا يَضُرُّ تَعْيِينُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَارَ وَلَمْ يَعْرِفْ طَلُقَتْ، وَلِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَلَاقَهَا لَازِمٌ لِلنَّقِيضَيْنِ وَلَازِمُ النَّقِيضَيْنِ وَاقِعٌ وَإِنْ جَهِلَ مَا يَقَعُ بِهِ، وَلْنَفْرِضْ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ اخْتِلَافٍ بِأَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِلَفْظٍ مُخْتَلَفٍ فِي كَوْنِهِ صَرِيحًا أَوْ لَا وَلَمْ يَنْوِ وَرَأَى الْحَاكِمُ أَنَّهُ صَرِيحٌ فَحَكَمَ بِالطَّلَاقِ أَوْ رَأَى أَنَّهُ غَيْرُ صَرِيحٍ فَحَكَمَ بِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غُرَابٌ فَلَيْسَ لِحَاكِمٍ آخَرَ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ الْحُكْمَ أَوْ يَحْكُمَ بِخِلَافِهِ مُسْتَنِدًا إلَى أَنَّهُ إنَّمَا قَطَعَ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَّجِهْ حُكْمٌ أَصْلًا وَكَانَ يَحْصُلُ الضَّرَرُ بِبَقَاءِ الْمَرْأَةِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْحَالِ مُعَلَّقَةً لَا مَنْكُوحَةً وَلَا مُطَلَّقَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَصْدَ الْحَاكِمِ أَنْ يَرْفَعَ الْخِلَافَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَعْتَقِدُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا فَيَحْكُمُ بِهَا وَلَا يُنْتَقَضُ حُكْمُهُ، نَعَمْ قَدْ يَحْكُمُ مُسْتَنِدًا إلَى سَبَبٍ وَهُنَاكَ شَيْءٌ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِثْلُ أَنْ يَحْكُمَ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ ثُمَّ يَظْهَرُ لِلدَّاخِلِ بَيِّنَةٌ وَهُوَ يَرَى تَقْدِيمَ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ فَهَاهُنَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَرَى تَقْدِيمَ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ فَلَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَلِكَ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْحَاكِمَ بِالْعِصْمَةِ مَالِكِيٌّ وَإِنَّمَا حَكَمَ مُسْتَنِدًا إلَى الْإِسْلَامِ الْمُسْتَمِرِّ حَتَّى لَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا نُسِبَ إلَيْهِ لَمْ يَحْكُمْ وَكَانَ يَحْكُمُ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فَهَاهُنَا يَظْهَرُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْإِسْلَامِ وَالْعِصْمَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُكْمِ الْمَالِكِيِّ الْمَذْكُورِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُوَافِقُهُ إذَا ظَهَرَتْ بَيِّنَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُقْتَضَاهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْكُمُ بِظَنِّ عَدَمِهَا، وَمَسْأَلَتُنَا هُنَا إنَّمَا هِيَ فِي حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ يَرَى الْعِصْمَةَ بِالْإِسْلَامِ سَوَاءٌ ثَبَتَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute