صَرِيحٌ وَبِهِ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَأَفْتَى أَيْضًا بِصَرَاحَةِ قَوْلِهِ يَا مُخَنَّثُ لِلْعُرْفِ
(لَا كَيَا ابْنَ الْحَلَالِ) أَوْ (أَنَا لَسْتُ زَانِيَا) وَابْنَ خَبَّازٍ، أَوْ إسْكَافٍ أَوْ أُمِّي لَيْسَتْ زَانِيَةً وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَيْسَ قَذْفًا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، وَإِنْ نَوَاهُ، بَلْ تَعْرِيضٌ لَهُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ إذَا اُحْتُمِلَ اللَّفْظُ الْمَنْوِيُّ وَلَا احْتِمَالَ لَهُ هُنَا وَمَا يُفْهَمُ وَيَتَخَيَّلُ مِنْهُ فَهُوَ أَثَرُ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَهُ مَاءً مِنْ عَطَشٍ وَنَوَى أَنْ لَا يَتَقَلَّدَ لَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ إنْ شَرِبَهُ لِغَيْرِ الْعَطَشِ لَا يَحْنَثُ قَالَ الْقُونَويُّ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ احْتِمَالَ اللَّفْظِ فِي التَّعْرِيضِ لِلْمَنْوِيِّ وَإِشْعَارَهُ بِهِ مِمَّا لَا يُنْكَرُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ أَنَّ الْكِنَايَةَ أَنْ تَذْكُرَ الشَّيْءَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَالتَّعْرِيضُ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا تَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَذْكُرْهُ كَمَا يَقُولُ الْمُحْتَاجُ لِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ جِئْتُك لِأُسَلِّمَ عَلَيْك وَلِأَنْظُرَ إلَى وَجْهِك وَلِذَلِكَ قَالُوا
وَحَسْبُك بِالتَّسْلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيًا
كَأَنَّهُ إمَالَةُ الْكَلَامِ إلَى عَرَضٍ يَدُلُّ عَلَى الْغَرَضِ وَيُسَمَّى التَّلْوِيحُ لِأَنَّهُ يُلَوِّحُ مِنْهُ بِمَا يُرِيدُهُ ثُمَّ قَالَ هَذَا كَلَامُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ التَّعْرِيضَ مُشْعِرٌ وَمُلَوِّحٌ بِالْمَقْصُودِ فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادٌ مِنْ نَفْيِ الدَّلَالَةِ وَالِاحْتِمَالِ عَنْ التَّعْرِيضِ أَنَّهُ لَوْلَا الْقَرِينَةُ وَالسِّيَاقُ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ فِي التَّعْرِيضِ مُشْعِرًا بِالْمَقْصُودِ فَيَقْرَبُ حِينَئِذٍ بَعْضَ الْقُرْبِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَبْعُدُ حُصُولُ مِثْلِهِ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْكِنَايَةِ نَحْوُ ذُوقِي فَإِنَّهُ بِمُجَرَّدِهِ لَا إشْعَارَ لَهُ بِإِضَافَةِ الذَّوْقِ إلَى كَأْسِ الْفِرَاقِ. انْتَهَى.
وَجَوَابُ نَظَرِهِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادٌ مِنْ نَفْيِ الدَّلَالَةِ إلَى آخِرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَبْعُدُ حُصُولُ مِثْلِهِ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْكِنَايَةِ إلَى آخِرِهِ، فَلَا يَضُرُّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْكِنَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يُشْعِرْ بِهِ لَفْظُهَا هُوَ مَدْلُولُهُ بِخِلَافِهِ فِي التَّعْرِيضِ
(يُوجِبُ) أَيْ الْقَذْفُ (ضِعْفَ أَرْبَعِينَ) أَيْ: ثَمَانِينَ (جَلَدَهْ) عَلَى الْحُرِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: ٤] الْآيَةَ وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ (لِكُلِّ مَقْذُوفٍ وَلَوْ) كَانَ الْقَذْفُ لِجَمَاعَةٍ (بِفَرْدَهْ) أَيْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنْتُمْ زُنَاةٌ، أَوْ يَا زُنَاةُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ الْجَلْدَ لِأَنَّهُ مِنْ الْحُقُوقِ الْمَقْصُودَةِ لِلْآدَمِيِّينَ فَلَا يَتَدَاخَلُ كَالدُّيُونِ وَلِدُخُولِ الْعَارِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ فَأَشْبَهَ مَا إذَا قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ (وَلَوْ بِتَكْرَارٍ) لِلْقَذْفِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْجَلْدَ لِكُلِّ مَقْذُوفٍ وَلَا يَتَكَرَّرُ، وَإِنْ كَانَ الزِّنَا الْمَقْذُوفُ بِهِ ثَانِيًا غَيْرَ الْمَقْذُوفِ بِهِ أَوَّلًا، أَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الِاسْتِئْنَافَ، أَوْ غَايَرَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ، أَوْ حُدَّ قَبْلَ الْقَذْفِ الثَّانِي لِاتِّحَادِ الْمَقْذُوفِ وَالْحَدُّ الْوَاحِدُ يُظْهِرُ الْكَذِبَ وَيَدْفَعُ الْعَارَ، فَلَا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ تَصْدِيقُهُ.
(وَ) يُوجِبُ (نِصْفَهُ) أَيْ: نِصْفُ ضِعْفِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً (عَلَى عَبْدٍ) لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ الْأَمَةُ وَالْمُبَعَّضُ وَالنَّظَرُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ إلَى حَالَةِ الْقَذْفِ لِتَقَرُّرِ الْوَاجِبِ حِينَئِذٍ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالِانْتِقَالِ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ
(وَإِنْ أَرْبَعَةٌ تَشْهَدْ فَلَا) أَيْ: وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ (أَيْ بِالزِّنَا) مِنْ الْمَقْذُوفِ (مَجْلِسَ حُكْمٍ) أَيْ: فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ (وَهُمْ ذُكُورٌ أَحْرَار وَكُلٌّ) مِنْهُمْ (مُسْلِمُ) فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَا عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: ٤] الْآيَةَ
ــ
[حاشية العبادي]
قَوْلُهُ: وَأَفْتَى أَيْضًا. . إلَخْ) الْأَوْجَهُ خِلَافُ هَذَا الْإِفْتَاءِ الثَّانِي م ر
(قَوْلُهُ: إلَى عَرْضٍ) أَيْ: جَانِبٍ (قَوْلُهُ: هُوَ مَدْلُولُهُ) قَدْ يُقَالُ: الْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِ الْإِشْعَارِ وَبَيْنَ الْمَدْلُولِيَّةِ تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى مَدْلُولِهِ فَضْلًا عَنْ إشْعَارِهِ بِهِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يُشْعِرُ بِخُصُوصِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إجْمَالًا لِأَنَّهُ فَرْدُ مَدْلُولِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ، أَوْ حُدَّ قَبْلَ الْقَذْفِ) الثَّانِي هَذَا مَعَ قَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ الزِّنَا الْمَقْذُوفُ بِهِ ثَانِيًا. . إلَخْ وَقَوْلُهُ: وَلَوْ بِتَكْرَارٍ لِلْقَذْفِ الشَّامِلِ لِمَا إذَا طَالَ الْفَصْلُ جِدًّا بَيْنَ مَرَّاتِ الْقَذْفِ يُفِيدَانِ أَنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ وَحُدَّ لَهُ ثُمَّ بَعْدَ سِنِينَ كَثِيرَةٍ قَذَفَهُ بِزِنًا آخَرَ غَيْرِ الْأَوَّل لَمْ يُحَدَّ لِهَذَا الْقَذْفِ، بَلْ يُعَزَّرُ فَقَطْ (قَوْلُهُ: قَبْلَ الْقَذْفِ الثَّانِي) أَيْ: مَثَلًا لَكِنْ إذَا كَانَ الْقَذْفُ الثَّانِي مَثَلًا
ــ
[حاشية الشربيني]
بِهَامِشِ الْحَاشِيَةِ (قَوْلُهُ: بِصَرَاحَةِ قَوْلِهِ يَا مُخَنَّثُ) الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ كَمَا فِي ق ل
(قَوْلُهُ: بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ) لَا يَخْفَى مُبَايَنَتُهُ لِقَوْلِ الشَّارِحِ سَابِقًا وَإِلَّا فَإِنْ فُهِمَ مِنْهُ الْقَذْفُ بِوَضْعِهِ فَكِنَايَةٌ إلَّا أَنْ يُرَادَ هُنَاكَ الْوَضْعُ الْمَجَازِيُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ مَوْضُوعٌ وَأَنَّ الْكِنَايَةَ مَجَازٌ لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهَا عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ مِنْ قِسْمِ الْحَقِيقَةِ لِاسْتِعْمَالِهَا فِي مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ وَتَقَدَّمَ عَنْ الزَّرْكَشِيّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْكِنَايَةِ الْمُجْمَلُ وَنَحْوُهُ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْكِنَايَةَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَعَمُّ مِنْهَا عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ وَمَعْنَى قَوْلِ الشَّارِحِ وَغَيْرِهِ فَإِنْ فُهِمَ مِنْهُ الْقَذْفُ بِوَضْعِهِ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا وُضِعَ لَهُ سَوَاءٌ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ أَوْ كَانَ مُفِيدًا لَهُ بِدُونِ انْتِقَالٍ فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: لَا يَحْنَثُ) أَيْ: وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَلَّدَ لَهُ مِنَّةً؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ إلَى آخِرِ مَا مَرَّ (قَوْلُهُ: لَا يَبْعُدُ حُصُولُ مِثْلِهِ. . إلَخْ) أَيْ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً أَيْضًا قَالَ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ وَصَوَّبَهَا الزَّرْكَشِيُّ. اهـ. لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ
(قَوْلُهُ وَلَوْ بِتَكْرَارٍ. . إلَخْ) فِي الرَّوْضِ وَشَرْحِهِ لَوْ قَذَفَ مَنْ لَاعَنَهَا عُزِّرَ فَقَطْ إنْ قَذَفَهَا بِذَلِكَ الزِّنَا أَوْ أَطْلَقَ لِأَنَّا صَدَّقْنَاهُ لِلِعَانٍ وَالتَّعْزِيرُ لِلْإِيذَاءِ فَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ عُزِّرَ أَيْضًا إنْ حُدَّتْ بِلِعَانِهِ لِكَوْنِهَا لَمْ تُلَاعِنْ لِلِعَانِهِ؛ لِأَنَّ لِعَانَهُ فِي حَقِّهِ كَالْبَيِّنَةِ وَإِنَّمَا عُزِّرَ لِلْإِيذَاءِ وَحُدَّ إنْ لَاعَنَتْ سَوَاءٌ قَذَفَهَا بِذَلِكَ بَعْدَ اللِّعَانِ أَوْ قَبْلَهُ وَاللِّعَانُ إنَّمَا يُسْقِطُ الْحَصَانَةَ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ لِعَانُهَا فَإِذَا عَارَضَهُ بَقِيَتْ الْحَصَانَةُ بِحَالِهَا وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ الْعُقُوبَةِ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بَعْدَ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ. اهـ. بِاخْتِصَارٍ ثُمَّ ذَكَرَ مَا إذَا حُدَّ بِالْقَذْفِ