مَا أَتَوْا بِهِ نَاقِضٌ لِآيَةِ {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة: ١٢] وَلِصَيْرُورَتِهِمْ حِينَئِذٍ كَمَا كَانُوا قَبْلَ الْمُهَادَنَةِ (وَنَفْي) نَحْنُ وُجُوبًا لَهُمْ (بِالشَّرْطِ إنْ صَحَّ وَإِنْ خَوْفٌ نُفِيَ) أَيْ: وَإِنْ زَالَ عَنَّا الْخَوْفُ الَّذِي عُقِدَ لِأَجْلِهِ وَمِثْلُهُ الضَّعْفُ وَيَسْتَمِرُّ الْوَفَاءُ (إلَى صُدُورِ النَّقْضِ مِنْهُمْ) أَوْ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.
قَالَ تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: ٣٤] وَقَالَ {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: ٤] وَيَحْصُلُ النَّقْضُ بِالتَّصْرِيحِ بِهِ وَبِقِتَالِنَا وَبِمُكَاتَبَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِعَوْرَةٍ لَنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ وَكُلَّمَا اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ نَاقِضًا لِعَهْدِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ نَاقِضٌ لِعَهْدِ الْهُدْنَةِ لِضَعْفِهَا، وَقُوَّةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَتَأَكُّدِهِ بِالْجِزْيَةِ وَلَوْ نَقَضَهُ بَعْضُهُمْ وَسَكَتَ الْبَاقُونَ انْتَقَضَ فِيهِمْ أَيْضًا
(وَإِذَا أَمَارَةُ النَّقْضِ تَبَدَّتْ) أَيْ: ظَهَرَتْ مِنْهُمْ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُمْ لَكِنْ (نُبِذَا) أَيْ: نَبَذَهُ الْإِمَامُ جَوَازًا. قَالَ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} [الأنفال: ٥٨] الْآيَةَ بِخِلَافِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لَا يُنْبَذُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مُؤَبَّدٌ؛ وَلِأَنَّ أَهْلَهَا فِي قَبْضَتِنَا فَيَسْهُلُ التَّدَارُكُ عِنْدَ ظُهُورِ الْخِيَانَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ جَانِبُهُمْ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إلَيْهِ بِخِلَافِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ وَجَرَوْا فِي التَّعْلِيلِ الثَّانِي عَلَى الْغَالِبِ مِنْ كَوْنِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِبِلَادِنَا، وَأَهْلِ الْهُدْنَةِ بِبِلَادِهِمْ، وَاعْتَبَرَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي جَوَازِ النَّبْذِ بِالْخَوْفِ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ (وَ) إذَا نَبَذَ عَهْدَهُمْ (أُنْذِرُوا) وَأُبْلِغُوا مَأْمَنَهُمْ قَبْلَ قِتَالِهِمْ إنْ كَانُوا بِبِلَادِنَا وَفَاءً بِالْعَهْدِ وَخَرَجَ بِظُهُورِ الْأَمَارَةِ مُجَرَّدُ الْوَهْمِ فَلَا يُنْبَذُ بِهِ الْعَهْدُ.
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَالْمُعْتَبَرُ فِي إبْلَاغِ الْكَافِرِ الْمَأْمَنَ أَنْ نَمْنَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْلِ عَهْدِهِمْ وَنَلْحَقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَالشَّرْطُ الصَّحِيحُ (كَرَدِّ) أَيْ: كَشَرْطِ رَدِّ (قَادِرٍ عَلَى) قَهْرِ (طَالِبِ مَنْ أَسْلَمَ) حَالَةَ كَوْنِهِ (حُرًّا رَجُلَا بِغَيْرِ جَبْرٍ) أَيْ: بِغَيْرِ إجْبَارٍ مِنَّا لَهُ عَلَى رَدِّهِ بَلْ نُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَالِبِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ إذْ لَا يَجُوزُ إجْبَارُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْإِقَامَةِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَذِكْرُ هَذَا الْقَيْدَ مِنْ زِيَادَتِهِ، وَكَذَا ذِكْرُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ عَلَى طَالِبِهِ مُسْلِمًا حُرًّا رَجُلًا كَانَ أَوْضَحَ، وَعِبَارَةُ الْحَاوِي كَرَدِّ رَجُلٍ حُرٍّ قَادِرٍ عَلَى طَالِبِهِ وَخَرَجَ بِالْقَادِرِ عَلَى الطَّالِبِ غَيْرُهُ لِامْتِنَاعِ رَدِّهِ لِعَجْزِهِ وَبِالْمُسْلِمِ الْكَافِرُ فَلَا يَتَقَيَّدُ الْحُكْمُ فِيهِ بِمَا يَتَقَيَّدُ بِهِ الْمُسْلِمُ بَلْ لَوْ شُرِطَ إجْبَارُنَا لَهُ عَلَى رَدِّهِ صَحَّ ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَبِالْحُرِّ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ يُهِينُونَهُ وَيَسْتَرِقُّونَهُ وَلَا عَشِيرَةَ لَهُ تَحْمِيهِ وَبِالرَّجُلِ الْمَرْأَةُ كَمَا مَرَّ حُكْمُهَا إذْ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهَا زَوْجُهَا الْكَافِرُ أَوْ تُزَوَّجَ بِكَافِرٍ؛ وَلِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الِافْتِتَانِ وَقَدْ. قَالَ تَعَالَى {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتحنة: ١٠] الْآيَةَ وَكَالْمَرْأَةِ الْخُنْثَى فِيمَا يَظْهَرُ وَبِالطَّالِبِ مَا لَوْ شَرَطَ رَدَّهُ بِغَيْرِ طَلَبٍ فَلَا يَصِحُّ
(وَلَهُ) أَيْ: الْمُسْلِمِ (أَنْ يَقْتُلَهْ) أَيْ: طَالِبَهُ (وَعُرِّفَ) جَوَازًا (الْجَوَازُ) لِقَتْلِهِ (بِالتَّعْرِيضِ لَهْ) لَا بِالتَّصْرِيحِ بِهِ رَوَى الْبُخَارِيُّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ أَبَا بَصِيرٍ لَمَّا جَاءَ فِي طَلَبِهِ رَجُلَانِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا فِي الطَّرِيقِ، وَأَفْلَتَ الْآخَرُ» وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ عُمَرَ. قَالَ لِأَبِي جَنْدَلٍ حِينَ رَدَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو إنَّ دَمَ الْكَافِرِ عِنْدَ اللَّهِ كَدَمِ الْكَلْبِ يُعَرِّضُ لَهُ بِقَتْلِ أَبِيهِ (أَوْ ذِي) عُطِفَ عَلَى قَادِرٍ أَيْ: كَشَرْطِ رَدِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ حُرٍّ قَادِرٍ عَلَى قَهْرِ طَالِبِهِ أَوْ ذِي (عَشِيرَةٍ) تَحْمِيهِ وَقَدْ (أَرَادَتْهُ) أَيْ: طَلَبَتْهُ إلَيْهَا وَإِنْ عَجَزَ عَنْ طَالِبِهِ كَمَا فِي قَضِيَّةِ أَبِي جَنْدَلٍ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَذُبُّونَ عَنْهُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَرْأَةِ وَالْقِنِّ وَمَنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ، أَوْ لَهُ عَشِيرَةٌ لَمْ تَطْلُبْهُ وَإِنْ طَلَبَهُ غَيْرُهَا أَوْ طَلَبَتْهُ وَلَمْ تَحْمِهِ.
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَإِنْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ فَذَاكَ أَوْ كُفْرًا لَا يُقِرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ أَوْ كُفْرًا يُقِرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمَ، أَوْ يَقْبَلَ الْجِزْيَةَ أَوْ يَرُدَّهُ إلَى مَأْمَنِهِ (وَلَنْ نَغْرَمَ لِلْغَيْرِ) أَيْ: لِأَجْلِ غَيْرِ مَنْ نَرُدُّهُ مِنْ النِّسَاءِ وَالْخَنَاثَى وَالْأَرِقَّاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَلَا نَغْرَمُ الْمُهُورَ
ــ
[حاشية العبادي]
قَوْلُهُ: وَنَفْي بِالشَّرْطِ) لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ فَكَأَنَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا يَأْتِي مِنْ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ (قَوْلُهُ: وَلَوْ نَقَضَهُ بَعْضُهُمْ إلَخْ) فِي الرَّوْضِ وَشَرْحِهِ فَإِنْ أَخَذُوا مَالًا أَوْ سَبُّوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ أَوْ آوَوْا عَيْنًا أَوْ قَتَلُوا مُسْلِمًا أَوْ تَجَسَّسُوا جَمِيعًا أَوْ بَعْضَهُمْ وَسَكَتَ الْبَاقُونَ عَنْهُ انْتَقَضَ الْعَهْدُ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمُوهُ نَقْضًا وَبَيَّتُوا فِي بِلَادِهِمْ بِلَا إنْذَارٍ وَالنَّازِلُ بِنَا أَيْ: بِدَارِنَا مَا يَبْلُغُ الْمَأْمَنَ. اهـ.
وَقَدْ تَقْتَضِي هَذِهِ الْعِبَارَةُ شُمُولَ تَبْلِيغِ الْمَأْمَنِ لِلنَّازِلِ بِدَارِنَا لِمَسْأَلَةِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ الْمَزِيدَةِ فِي الشَّرْحِ فَلْيُرَاجَعْ (قَوْلُهُ: انْتَقَضَ فِيهِمْ أَيْضًا) قَالَ فِي الرَّوْضِ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمُوهُ نَقْضًا
(قَوْلُهُ: وَاعْتَبَرَ ابْنُ الرِّفْعَةِ إلَخْ) عِبَارَةُ الشَّارِحِ وَيَجُوزُ نَبْذُ الْعَهْدِ إلَيْهِمْ بِظُهُورِ أَمَارَةِ النَّقْضِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ لَكِنْ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ بِذَلِكَ، وَكَلَامُ النَّظْمِ وَأَصْلُهُ يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ. اهـ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَخْ) قَالَ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ وَرَدَّهُ الزَّرْكَشِيُّ. اهـ. (قَوْلُهُ: إنْ كَانُوا بِبِلَادِنَا) الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذَا أَنَّهُ قَيْدٌ مُضِرٌّ وَكَذَا بِخَطِّ شَيْخِنَا الشِّهَابِ وَكَتَبَ أَيْضًا لَعَلَّهُ قَيْدٌ لِبَلَغُوا دُونَ مَا قَبْلَهُ (قَوْلُهُ: كَانَ أَوْضَحَ) لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْقَادُّ الْمَذْكُورُ وَالْعِبَارَةُ تُوهِمُ أَنَّهُ غَيْرُهُ
(قَوْلُهُ: رَدَّ أَبَا بَصِيرٍ إلَخْ) وَعَلِمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ بَلْ ذَكَرَ مَا يُصَرِّحُ بِالْجَوَازِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَمَامِ الْقِصَّةِ (قَوْلُهُ: أَوْ كُفْرًا لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ) يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لَا يُعْقَدُ لِأَهْلِ الْجِزْيَةِ وَبِمَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ مَا يَعْقِدُ لَهُمْ الْجِزْيَةَ
ــ
[حاشية الشربيني]
قَوْلُهُ: قَادِرٍ إلَخْ) ضَابِطُهُ كُلُّ مَنْ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ جَازَ شَرْطُ رَدٍّ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ. اهـ.
م ر فِي حَوَاشِي شَرْحِ الرَّوْضِ (قَوْلُهُ: بِالتَّعْرِيضِ) أَمَّا التَّصْرِيحُ فَيَمْتَنِعُ. اهـ.
شَرْحُ الرَّوْضِ أَيْ: لِمَكَانِ الْهُدْنَةِ نَعَمْ مَنْ أَسْلَمَ مَعَهُمْ بَعْدَ الْهُدْنَةِ لَهُ التَّصْرِيحُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُمْ أَمَانًا. اهـ.
م ر