الْقَضَاءِ لِلْأَدَاءِ.
وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّفْرِيقُ هُنَا بِخِلَافِهِ فِي الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَعَلَّقَتْ بِالْوَقْتِ، وَقَدْ فَاتَ وَهَذَا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ، وَالرُّجُوعُ وَاعْلَمْ أَنَّ دِمَاءَ الْمَنَاسِكِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا دَمُ تَرْتِيبٍ، وَتَقْدِيرٍ أَيْ: قَدَّرَ الشَّرْعُ مَا يُعْدَلُ إلَيْهِ بِمَا لَا يَزِيدُ، وَلَا يَنْقُصُ وَهُوَ مَا مَرَّ مِنْ دَمِ التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ، وَالْفَوَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ مِنْ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةٍ وَبِمِنًى، وَالرَّمْيِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَوَقَعَ فِي الْمِنْهَاجِ كَأَصْلِهِ تَصْحِيحُ كَوْنِ الدَّمِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ دَمَ تَرْتِيبٍ وَتَعْدِيلٍ، وَالْأَصَحُّ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَالْمَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: وَبِهِ الْفَتْوَى، ثَانِيهَا دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَعْدِيلٍ، وَهُوَ دَمُ الْوَطْءِ الْمُفْسِدِ وَدَمُ الْإِحْصَارِ وَمَعْنَى التَّعْدِيلِ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ فِيهِ بِالتَّقْوِيمِ، وَالْعُدُولِ إلَى غَيْرِهِ بِحَسَبِ الْقِيمَةِ، وَأُخِذَ هَذَا الِاسْمُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: ٩٥] ، ثَالِثُهَا دَمُ تَخْيِيرٍ وَتَعْدِيلٍ، وَهُوَ دَمُ الصَّيْدِ، وَالشَّجَرِ، وَقَدْ نَبَّهْت عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَيْضًا فِيمَا مَرَّ، رَابِعُهَا دَمُ تَخْيِيرٍ وَتَقْدِيرٍ، وَهُوَ دَمُ اللُّبْسِ، وَالتَّطَيُّبُ وَدَهْنُ الرَّأْسِ أَوْ اللِّحْيَةِ وَإِبَانَةُ الشَّعْرِ أَوْ الظُّفْرِ وَمُقَدِّمَاتُ الْجِمَاعِ بِشَهْوَةٍ مَعَ الْمُبَاشَرَةِ، وَالِاسْتِمْنَاءُ مَعَ الْإِنْزَالِ، وَالْجِمَاعُ بَعْدَ الْإِفْسَادِ أَوْ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهَا، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا بِقَوْلِهِ:
(وَفِي الْحَرَامِ) أَيْ: فِعْلِ مَا يَحْرُمُ بِالْإِحْرَامِ، وَإِنْ أُبِيحَ لِعُذْرٍ (وَهْوَ لَا صَيْدٌ، وَلَا مُفْسِدُ نُسْكٍ) بِإِسْكَانِ السِّينِ مُخَفَّفًا مِنْ ضَمِّهَا (شَاةٌ) بِصِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ (أَوْ فَلْيَبْذُلَا) بِالْمُعْجَمَةِ وَإِبْدَالِ أَلْفِهِ مِنْ نُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ أَيْ: أَوْ يُعْطِ (ثَلَاثَةً مِنْ آصُعَ طَعَامَا لِسِتَّةٍ تَمَسْكَنُوا) لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ صَاعٍ.
وَآصُعٌ جَمْعُ صَاعٍ وَأَصْلُهُ أَصْوُعٌ أُبْدِلَتْ وَاوُهُ هَمْزَةً مَضْمُومَةً وَقُدِّمَتْ عَلَى الصَّادِ، وَنُقِلَتْ ضَمَّتُهَا إلَيْهَا، وَقُلِبَتْ هِيَ أَلِفًا (أَوْ صَامَا ثَلَاثَةً) مِنْ الْأَيَّامِ قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: ١٩٦] أَيْ: فَحَلَقَ {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: ١٩٦] ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَيُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَك وَانْسُكْ شَاةً أَوْ صُمْ ثَلَاثَةً أَيَّامٍ أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ مِنْ طَعَامٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ» ، وَالْفَرَقُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَالرَّاءِ: ثَلَاثَةُ آصُعَ وَقِيسَ بِالْحَلْقِ بَقِيَّةُ الْمُحَرَّمَاتِ غَيْرَ مَا اُسْتُثْنِيَ بِجَامِعِ التَّرَفُّهِ، وَبِالْمَعْذُورِ غَيْرُهُ وَبِالْمَسَاكِينِ الْفُقَرَاءُ، أَوْ هُمْ دَاخِلُونَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَشْمَلُ الْآخَرَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ.
وَصَرَّحَ مِنْ زِيَادَتِهِ بِاسْمِ هَذَا الدَّمِ فَقَالَ (هَذَا دَمُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ) الْخِصَالِ (الثَّلَاثِ وَدَمُ التَّقْدِيرِ) ؛ إذْ الطَّعَامُ، وَالصَّوْمُ مُقَدَّرَانِ وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: لَا صَيْدَ، وَلَا مُفْسِدَ نُسْكٍ الصَّيْدُ وَمُفْسِدُ النُّسُكِ؛ إذْ دَمُ الْأَوَّلِ مُخَيَّرٌ مُعَدَّلٌ وَدَمُ الثَّانِي مُرَتَّبٌ مُعَدَّلٌ كَمَا مَرَّ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ دَمَ الشَّجَرِ كَدَمِ الصَّيْدِ فَلَوْ قَالَ: لَا صَيْدَ، وَلَا شَجَرَ، وَلَا مُفْسِدَ نُسْكٍ كَانَ أَوْلَى وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ مَكَانَ ذَبْحِ الدَّمِ اللَّازِمِ لِلْمُحْصَرِ وَصَرْفِ لَحْمِهِ حَيْثُ أُحْصِرَ، وَأَمَّا مَكَانُ ذَبْحِ بَقِيَّةِ الدِّمَاءِ وَصَرْفِ لَحْمِهَا فَأَرْضُ الْحَرَمِ كَمَا قَالَ (مَخْصُوصَةٌ) أَيْ: حَالَةَ كَوْنِ الدَّمِ مَخْصُوصَةً (بِذَبْحِهِ أَرْضُ الْحَرَمْ) قَالَ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: ٩٥] وَقِيسَ بِالْكَعْبَةِ بَقِيَّةُ الْحَرَمِ
وَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ إلَى مَوْضِعِ النَّحْرِ مِنْ مِنًى وَقَالَ: هَذَا مَنْحَرٌ وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ» وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد «كُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ» فَلَوْ ذَبَحَ خَارِجَهُ لَمْ يَكْفِ، وَإِنْ صَرَفَ لَحْمَهُ لِفُقَرَاء الْحَرَمِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَبْحُهُ بِزَمَنٍ، لَكِنْ يُنْدَبُ إرَاقَتُهُ أَيَّامَ التَّضْحِيَةِ قَالَ
ــ
[حاشية العبادي]
أَيْ سِوَى بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَذَا بِخَطِّ شَيْخِنَا وَلَك أَنْ تَقُولَ: قِيَاسُ اعْتِبَارِ الْأَرْبَعَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ أَعْنِي صَوْمَ الثَّلَاثَةِ فِي أَثْنَاءِ الرُّجُوعِ وَصَوْمَهَا فِي أَوَّلِهِ اعْتِبَارُ جَمِيعِ مُدَّةِ السَّيْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ الْفَصْلُ بِهَا فِي الْأَصْلِ وَتَأْخِيرُ الثَّلَاثَةِ إلَيْهَا لَا يَنْفِي اعْتِبَارَ الْفَصْلِ بِهَا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ قَوْلِ الشَّارِحِ كَغَيْرِهِ أَيْ: مِقْدَارَ تَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَدَاءِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ إلَخْ فَلْيُرَاجَعْ سم
(قَوْلُهُ: وَإِنْ أُبِيحَ) فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحَرَامَ بِالْفِعْلِ. (قَوْلُهُ: بِصِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ) لَوْ ذَبَحَ عَنْهَا بَدَنَةً، أَوْ بَقَرَةً أَجْزَأَ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: لَكِنَّ الْفَرْضَ السُّبُعُ وَيَجُوزُ أَكْلُ الْبَاقِي بِرّ. (قَوْلُهُ: وَصَرَفَ لَحْمَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ) لَوْ لَمْ تُوجَدْ الْمَسَاكِينُ حَيْثُ أُحْصِرَ فَبَحَثَ الزَّرْكَشِيُّ جَوَازَ نَقْلِهِ إلَيْهِمْ وَقَالَ ابْنُ الْعِمَادِ: يَنْبَغِي جَوَازُ نَقْلِهِ إلَّا أَنْ يُمْكِنَ نَقْلُ اللَّحْمِ إلَيْهِمْ قِيلَ: وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَهَذَا الْبَابُ أَيْ: بِأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ بِتَخْصِيصِهَا بِالْبَلَدِ بِخِلَافِ هَذَا أَنَّ مَحَلَّ الْإِحْصَارِ كَمَحَلِّ الزَّكَاةِ، فَإِذَا
ــ
[حاشية الشربيني]
فَقَطْ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ إنَّمَا تَحَقَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ، وَالْفَصْلُ بِيَوْمٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَلْيُتَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَعَلَّقَتْ إلَخْ) يُؤْخَذُ مِنْهُ قَاعِدَةٌ حَسَنَةٌ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَعَلَّقَتْ بِوَقْتٍ فَاتَ لَا يَجِبُ فِي قَضَائِهَا أَنْ يَحْكِيَ أَدَاءَهَا وَكُلَّ عِبَادَةٍ تَعَلَّقَتْ بِفِعْلٍ وَلَمْ يَفُتْ ذَلِكَ الْفِعْلُ يَجِبُ فِي قَضَائِهَا أَنْ يَحْكِيَ أَدَاءَهَا كَالثَّلَاثَةِ الْفَائِتَةِ هُنَا مَعَ السَّبْعَةِ فَإِنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِفِعْلٍ هُوَ الْحَجُّ، وَالرُّجُوعُ وَقَدْ فُعِلَا فَوَجَبَتْ حِكَايَتُهَا فِي الْقَضَاءِ، وَمِثْلُهُ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ إذَا لَمْ يُدْرِكْهَا، وَأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَعَلَّقَتْ بِفِعْلٍ وَزَمَانٍ كَالرَّوَاتِبِ الْبَعْدِيَّةَ، وَالْوَتْرِ، وَالتَّرَاوِيحِ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَكْتُوبَةِ؛ لِدُخُولِهَا بِفِعْلِهَا وَزَمَانٍ هُوَ الْوَقْتِ لِخُرُوجِهَا بِخُرُوجِهِ فَالْمُغَلِّبُ فِيهَا الْوَقْتُ. اهـ. جَمَلٌ عَنْ ابْنِ الْجَمَّالِ فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ
(قَوْلُهُ: فَلَوْ ذَبَحَ خَارِجَهُ لَمْ يَكْفِ)