آباؤُكُمْ شروع في بيان من يحرم نكاحها من النساء ومن لا يحرم بعد بيان كيفية معاشرة الأزواج، وهو عند بعض مرتبط بقوله سبحانه: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وإنما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كان ذلك ديدنا لهم في الجاهلية.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال: كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه، أو ينكحها من شاء. فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه حصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا فأتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ارجعي لعل الله تعالى ينزل فيك شيئا فنزلت وَلا تَنْكِحُوا الآية، ونزلت أيضا لا يَحِلُّ لَكُمْ إلخ»
وذكر الواحدي وغيره أنها نزلت في حصن المذكور، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه، وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب، وفي منظور بن ريان تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة، واسم الآباء ينتظم الأجداد كيف كانوا باعتبار معنى يعمهما لغة لا باعتبار الجمع بين الحقيقة والمجاز، وفي النهاية إن دلالة الأب على الجد بأحد طريقين: إما أن يكون المراد بالأب الأصل وإما بالإجماع، ولا يخفى أن كون الدلالة بالإجماع مما لا معنى له، نعم لثبوت حرمة من نكحها الجد بالإجماع معنى لا خفاء فيه فتثبت حرمة ما نكحوها نصا وإجماعا، ويستقل في إثبات هذه الحرمة نفس النكاح أعني العقد إن كان صحيحا ولا يشترط الدخول، وإلى ذلك ذهب ابن عباس، فقد أخرج عنه ابن جرير والبيهقي أنه قال: كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي عليك حرام، وروي ذلك عن الحسن وابن أبي رباح، وإن كان النكاح فاسدا فلا بدّ في إثبات الحرمة من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمس بشهوة مثلا بل هو المحرم في الحقيقة حتى لو وقع شيء من ذلك بملك اليمين، وبالوجه المحرم ثبتت به الحرمة عندنا، وإليه ذهبت الإمامية، وخالفت الشافعية في المحرم، وتحقيق ذلك أن الناس اختلفوا في مفهوم النكاح لغة فقيل: هو مشترك لفظي بين الوطء والعقد وهو ظاهر كلام كثير من اللغويين، وقيل: حقيقة في العقد مجاز في الوطء وعليه الشافعية، وقيل:
بالعكس وعليه أصحابنا، ولا ينافيه تصريحهم بأنه حقيقة في الضم (١) لأن الوطء من أفراده والموضوع للأعم حقيقة في كل من أفراده على ما أطلقه الأقدمون، وقد تحقق استعمال النكاح في كل من هذه المعاني، ففي الوطء
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ولدت من نكاح لا من سفاح»
أي من وطء حلال لا من وطء حرام،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح» ،
وقول الشاعر:
ومن أيم قد (أنكحتها) رماحنا ... وأخرى على خال وعم تلهف
وقول الآخر:
«ومنكوحة» غير ممهورة وقول الفرزدق:
إذ سقى الله قوما صوب عادية ... فلا سقى الله أرض الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساءهم ... (والناكحين) بشطي دجلة البقرا
وفي العقد قول الأعشى:
فلا تقربن جارة إن سرها ... عليك حرام (فانكحن) أو تأبدا
(١) قال في البحر: وهو مردود فإن الوطء مغاير للضم. وأيده بما في المغرب فارجع إليه اهـ منه.