للإيذان بأن كل واحد من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في قوله تعالى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة: ١٢٩] لتبادر إلى الفهم عدّ الجميع نعمة واحدة وهو السر في التعبير عن القرآن- بالآيات- تارة- وبالكتاب والحكمة- أخرى رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة قاله مولانا شيخ الإسلام، وقد يقال: المراد من تلاوة الآيات تلاوة ما يوحى إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من الآيات الدالة على التوحيد والنبوة ومن التزكية الدعاء إلى الكلمة الطيبة المتضمنة للشهادة لله تعالى بالتوحيد ولنبيه عليه الصلاة والسلام بالرسالة، وبتعليم الكتاب تعليم ألفاظ القرآن وكيفية أدائه ليتهيأ لهم بذلك إقامة عماد الدين، وبتعليم الحكمة الإيقاف على الأسرار المخبوءة في خزائن كلام الله تعالى، وحينئذ أمر ترتيب هذه المتعاطفات ظاهر إذ حاصل ذل كأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يمهد سبل التوحيد ويدعو إليه ويعلم ما يلزم بعد التلبس به ويزيد على الزبد شهدا فتقديم التلاوة لأنها من باب التمهيد ثم التزكية لأنها بعده وهي أول أمر يحصل منه صفة يتلبس بها المؤمنون وهي من قبيل التخلية المقدمة على التحلية لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، ثم التعليم لأنه إنما يحتاج إليه بعد الإيمان، بقي أمر تقديم التعليم على التزكية في آية البقرة ولعله كان إيذانا بشرافة التحلية كما أشرنا إليه هناك فتأمل وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبل بعثة الرسول لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر وَإِنْ هي المخففة واللام هي الفارقة، والمعنى إن الشأن كانوا من قبل إلخ.
وإلى هذا ذهب بعض المحققين، وذكر مثله مكي إلا أنه قال: التقدير وأنهم كانوا من قبل فجعل اسمها ضميرا عائدا على المؤمنين، قال أبو حيان: وكلا الوجهين لا نعرف نحويا ذهب إليه وإنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنك إذا قلت: إن زيدا قائم ثم خففت. فمذهب البصريين فيها وجهان: أحدهما جواز الأعمال ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشددة- إلا أنها لا تعمل في مضمر، ومنع ذلك الكوفيون- وهم محجوبون بالسماع الثابت من لسان العرب- والوجه الثاني وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل لا في ظاهر ولا مضمر لا ملفوظ ولا مقدر البتة فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ولزمت اللام في ثاني مصحوبيها إن لم ينف، وفي أولهما إن تأخر، فتقول: إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيدا قائم، وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من نواسخ الابتداء، وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم.
وأجاب الحلبي عمن قدر الشأن بأنه تفسير معنى لا بيان إعراب، وقال عصام الملة: إن الشأن لم يرد تقدير ضمير الشأن بل جعل الجملة حالا بتأويل القصة ذلك لئلا يختلف زمان الحال والعامل فإن زمان الكون في ضلال مبين قبل زمان التعليم لكن كون القصة ذلك مستمر، ثم قال: وهذا تأويل شائع مشهور في الحال الذي يتقدم زمان تحققه زمان تحقق العامل فاحفظه ولا تلفظه انتهى، وأنت تعلم أن ما ذكره الحلبي خلاف الظاهر، وكلام عصام الملة منظور فيه لأن المناسب لما ذكره على تقدير تعينه تقدير الشأن قبل- أن- لا بعدها كما لا يخفى، وجوز بعضهم كون الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والأكثرون على الحالية، وعلى التقديرين فهي مبينة لكمال النعمة وتمامها، وقوله تعالى: