تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فأخص المراتب هو المحبة، وإليه يشير قوله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ثم الخلة، وفي لفظها إشارة إلى ذلك من طريق مخارج الحروف وأعمها الاصطفاء فاصطفى آدم بتعليم الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له، ونوحا الذي هو الأب الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه، واصطفى آل إبراهيم وهم الأنبياء من ذريته بظهور أنوار تجليه الخاص على آفاق وجودهم، وآل عمران بجعلهم آية للعالمين ذرية بعضها من بعض في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان: صورية ومعنوية، وكل نبي تبع نبيا في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه، ويمكن أن يقال: آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها، ونوح هو هي في مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات، وآله القوى الروحانية، وعمران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن، وآله التابعون له في ذلك البيت المقتدون به، وكل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً عن رق النفس مخلصا في عبادتك عن الميل إلى السوي فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ قال الواسطي: محفوظ عن إدراك الخلق وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً حيث سقاها من مياه القدرة وأثمرها شجرة النبوة وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا لطهارة سره، وشبيه الشيء منجذب إليه كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً هو ما علمت، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية.
وأخرج ابن أبي حاتم من بعض الطرق عن مجاهد أنه قال رزقا أي علما، وقد يقال على نحو الأول ليتم تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وهي النفس في أول مراتب طاعتها لعمران العقل إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي وهو غلام القلب مُحَرَّراً ليس في رق شيء من المخلوقات فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وهي نفس أيضا إلا أنها أكمل منها في المرتبة، والجنس يلد الجنس وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ لعلمه أنه سيظهر من هذه الأنثى العجب العجاب، وغيره سبحانه تخفى عليه الأسرار وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وهي العابدة وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وهو الشهوات النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وهو اختصاصه إياها بإفاضة أنواره عليها وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ورقاها فيما تكمل به نشأتها ترقيا حسنا غير مشوب بالعوائق والعلائق وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا الاستعداد كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا وتوجه نحوها في محراب تعبدها المبني لها في بيت مقدس القلب وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً تتغذى به الأرواح في عالم الملكوت قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا الرزق العظيم قالت: هو مفاض من عند الله منزه عن الحمل بيد الافكار إِنَّ اللَّهَ الجامع لصفات الجمال والجلال يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ويفيض عليهم من علمه حسب قابليتهم بِغَيْرِ حِسابٍ فسبحانه من إله جواد كريم وهاب.