أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ استئناف لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم إثر ذكر أنواع التكاليف والأحكام الشرعية، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين وفيه إيذان بكمال شهرة شناعة حالهم، وقيل: لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم، وخطاب سيد القوم في مقام خطابهم والرؤية بصرية، وتعديها بإلى حملا لها على النظر- أي ألم تنظر إليهم- وجعلها علمية وتعديها بإلى لتضمينها معنى الانتهاء- أي ألم ينته علمك إليهم- منحط في مقام التعجيب وتشهير شنائعهم، ونظمها في سلك الأمور المشاهدة، والمراد من الموصول يهود المدينة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لويا لسانهما وعاباه، وعنه أنها نزلت في حبرين كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ ورهطه يثبطانهم عن الإسلام.
والمراد من الكتاب التوراة، وقيل: الجنس وتدخل فيه دخولا أوليا وفيه تطويل للمسافة، وقيل: القرآن لأن اليهود علموا أنه كتاب حق أتى به نبي صادق لا شبهة في نبوته، وفيه أنه خلاف الظاهر، و «بالذي أوتوه» ما بين لهم فيه من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتعبير عنه بالنصيب المشعر بأنه حق من حقوقهم التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بركاكة آرائهم في الإهمال، والتنوين للتفخيم، وهو مؤيد للتشنيع، ومثله ما لو حمل على التكثير، ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع صفة لنصيبا مبينة لفخامته الإضافية إثر فخامته الذاتية، وقيل: متعلقة- بأوتوا- وقوله تعالى: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام مبني على سؤال نشأ منه كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل: يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه المنزل منزلة الحصول، أو حصوله لهم بالفعل بإنكارهم نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقال الزجاج: المعنى يأخذون الرشا ويحرفون التوراة، فالضلالة هو هذا التحريف أي اشتروها بمال الرشا، وذهب أبو البقاء إلى أن جملة يَشْتَرُونَ حال مقدرة من ضمير أُوتُوا أو حال من الَّذِينَ، وتعقب الوجه الأول بأنه لا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائهم المذكور في الإيتاء مما لا يليق بالمقام، والثاني بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور، وما عطف عليه من قوله تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ فالأوجه