- في نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ووضعهم مكانه طوال، وكتحريفهم- الرجم- ووضع الحد موضعه، وإما صرفه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الفاسدة والتمحلات الزائغة كما تفعله المبتدعة في الآيات القرآنية المخالفة لمذهبهم، ويؤيد الأول ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، واستشكل بأنه كيف يمكن ذلك في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر وانتشرت نسخه شرقا وغربا؟!.
وأجيب بأن ذلك كان قبل اشتهار الكتاب في الآفاق وبلوغه مبلغ التواتر وفيه بعد، وإن أيد بوقوع الاختلاف في نسخ التوراة التي عند طوائف اليهود، وقيل: إن اليهود فعلوا ذلك في نسخ من التوراة ليضلوا بها ولما لم ترج عدلوا إلى التأويل، والمراد من مَواضِعِهِ على تقدير إرادة الأعم ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل والدين كمواضع غيره، وأصل التحريف إمالة الشيء إلى حرف أي طرف فإذا كان يُحَرِّفُونَ بمعنى يزيلون كان كناية لأنهم إذا بدلوا الْكَلِمَ ووضعوا مكانه غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه، والفرق بين ما هنا وما يأتي في سورة المائدة من قوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [المائدة: ٤١] أن الثاني أدل على ثبوت مقار الْكَلِمَ واشتهارها مما هنا، وذلك لأن الظرف يدل على أنه بعد ما ثبت الموضع وتقرر حرفوه عنه، واختار ذلك هنا لك لأن فيه ما يقتضي الإتيان بالأدل الأبلغ وَيَقُولُونَ عطف على يُحَرِّفُونَ وأكثر العلماء على أن المراد به القول اللساني بمحضر النبي صلّى الله عليه وسلّم، واختار البعض حمله على ما يعم ذلك وما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة ولا يقيد حينئذ بزمان أو مكان ولا يخصص بمادة دون مادة ويحتاج إلى ارتكاب عموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والمعنى عليه أنهم مع ذلك التحريف يقولون ويفهمون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صلّى الله عليه وسلّم أو بلسان الحال أو المقال عنادا وتحقيقا للمخالفة سَمِعْنا أي فهمنا وَعَصَيْنا أي لم نأتمر وبذلك فسره الراغب وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ عطف على سَمِعْنا داخل معه تحت القول لكن باعتبار أنه لساني، وفي أثناء مخاطبته صلّى الله عليه وسلّم- وهو كلام ذو وجهين- محتمل للشر والخير، ويسمى في البديع بالتوجيه كما قاله غير واحد، ومثلوا له بقوله:
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
واحتماله للشر بأن يحمل على معنى اسمع مدعوا عليك بلا سمعت، أو اسْمَعْ غَيْرَ مجاب إلى ما تدعو إليه، أو اسْمَعْ نابي السمع عما تسمعه لكراهيته عليك، أو اسْمَعْ كلاما غَيْرَ مُسْمَعٍ إياك لأن أذنيك تنبو عنه- فغير- إما حال لا غير، وإما مفعول به وصحت الحالية على الاحتمال الأول باعتبار أن الدعاء هو المقصود لهم وأنهم لما قدروا- لعنهم الله تعالى- إجابته صار كأنه واقع مقرر، واحتماله للخير بأن يحمل على معنى اسْمَعْ منا غَيْرَ مُسْمَعٍ مكروها من قولهم: أسمعه فلان إذا سبه، وكان أصله أسمعه ما يكره فحذف مفعوله نسيا منسيا وتعورف في ذلك، وقد كانوا لعنهم الله تعالى يخاطبون بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء مظهرين له صلّى الله عليه وسلّم المعنى الأخير وهم يضمرون سواه وَراعِنا عطف على ما قبله أي ويقولون أيضا في أثناء خطابهم له صلّى الله عليه وسلّم هذا وهو ذو وجهين كسابقه، فاحتماله للخير على معنى أمهلنا وانظر إلينا، أو انتظرنا نكلمك، واحتماله للشر يحمله على السب، ففي التيسير: إن راعنا بعينه مما يتسابون به وهو للوصف بالرعونة، وقيل: إنه يشبه كلمة سب عندهم عبرانية أو سريانية وهي راعينا، وقيل: بل كانوا يشبعون كسر العين ويعنون- لعنهم الله تعالى- أنه- وحاشاه صلّى الله عليه وسلّم- بمنزلة خدمهم ورعاة غنمهم، وقد كانوا يقولون ذلك مظهرين الاحترام والتوقير مضمرين ما يستحقون به جهنم وبئس المصير.