أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها، ثم رجع فأتى أهله باليمن ثم جاء بهم مسلمين، وروي أن عبد الله بن سلام لما قدم من الشام وقد سمع هذه الآية أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي، ثم اختلفوا فقال المبرد: إنه منتظر بعد ولا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل قيام الساعة، وأيد بتنكير وجوه، والتعبير بضمير الغيبة فيما يأتي، واعترضه شيخ الإسلام بأن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكذبوها وفي التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة، وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من وجه بعد ما فات من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم العاملين بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة العزيز الحكيم، والجواب بأن عادة الله سبحانه قد جرت مع اليهود بأن ينتقم من أخلافهم بما صنعت أسلافهم وإن لم يعلم وجه الحكمة فيه على تقدير تسليمه لا يزيل البعد في هذه الصورة، وقال البرسي: إن هذا الوعيد كان متوجها إليهم لو لم يؤمن أحد منهم، وقد آمن جماعة من أحبارهم فلم يقع ورفع عن الباقين، واعترض أيضا بأن إسلام البعض إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم، وقيل: في الجواب أنه إذا جاز أن ينزل سبحانه البلاء على قوم بسبب عصيان بعض منهم كما يشير إليه قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥] فلأن يجوز أن يرفع ذلك عن الكل بسبب طاعة البعض من باب أولى لأنه سبحانه الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه.
وقد ورد في الأخبار ما يدل على وقوع ذلك، ودعوى الفرق مما لا تكاد تسلم، وقيل: كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع في وقوع الأمر الثاني فإن اليهود ملعونون بكل لسان وفي كل زمان، فاللعن بمعناه الظاهر والمراد من التشبيه بلعن أصحاب السبت الإغراق في وصفه، واعترض بأن اللعن الواقع عليهم ما تداولته الألسنة وهو بمعزل من صلاحيته أن يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة عن مخالفة للعنيد، فاللعن هنا الخزي بالمسخ وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وابن جرير عن الحسن، ويؤيده ظاهر التشبيه، وليس في عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة على إرادة ذلك ضرورة أنه تعبير مغاير لما عطف عليه، والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [المائدة: ٦٠] لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية، وذهب البلخي والجبائي إلى أن الوعيد إنما كان بوقوع ما ذكر في الآخرة عند الحشر وسيقع فيها أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع.
وأجيب عما روي عن الحبرين الظاهر في أن ذلك في الدنيا بأنه مبني على الاحتياط وغلبة الخوف اللائق بشأنها،
وقد ورد «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر الدخول والخروج في الحجرات ولا يكاد يقر له قرار إذا اشتد الهواء، ويقول: أخشى أن تقوم الساعة»
مع علمه صلّى الله عليه وسلّم بأن قبل قيامها القائم وعيسى عليه السلام. والدجال عليه اللعنة والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما قصه صلّى الله عليه وسلّم علينا، وجوز بعضهم على تقدير كون الوعيد بالوقوع في الآخرة أن يراد بالطمس والرد على الأدبار الختم على العين والفم والطبع عليهما، فقد قال الله تعالى: لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس: ٦٦] والْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ [يس: ٦٥] وجوز نحو هذا بعض من ادعى أن ذلك في الدنيا فقال: إن المعنى آمنوا من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار، ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق