للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإفساد أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ

قال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأطفالهم فقالوا: يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا فقالوا: والذي يحلف به ما نحن فيه إلا كهيئتهم ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار فهذا الذي زكوا به أنفسهم

وأخرج ابن جرير عن الحسن «أنها نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨] وقالوا:

لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١١١] والمعنى انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم، أو من ادعائهم أن الله تعالى يكفر ذنوبهم الليلية والنهارية مع استحالة أن يغفر لكافر شيء من كفره أو معاصيه، وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها لغير غرض. صحيح كالتحدث بالنعمة ونحوه بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إبطال لتزكية أنفسهم وإثبات لتزكية الله تعالى وكون ذلك للإضراب عن ذمهم بتلك التزكية إلى ذمهم بالبخل والحسد بعيد لفظا ومعنى، والجملة عطف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل: هم لا يزكونها في الحقيقة بل الله يزكي من يشاء تزكيته ممن يستأهل من عباده المؤمنين «إذ هو العليم الخبير» وأصل التزكية التطهير والتنزيه من القبيح قولا- كما هو ظاهر- أو فعلا كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: ٩] ، وخُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: ١٠٣] وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا عطف على جملة حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها، وإيذانا بأنها غنية عن الذكر أي يعاقبون بتلك الفعلة الشنيعة ولا يظلمون في ذلك العقاب أدنى ظلم، وأصغره، وهو المراد بالفتيل، وهو الخيط الذي شق النواة وكثيرا ما يضرب به المثل في القلة والحقارة- كالنقير للنقرة التي في ظهرها- والقطمير- وهو قشرتها الرقيقة، وقيل: الفتيل ما خرج بين إصبعيك وكفيك من الوسخ، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي مالك والسدي رضي الله تعالى عنهم، وجوز أن تكون جملة وَلا يُظْلَمُونَ في موضع الحال والضمير راجع إلى من حملا له على المعنى أي والحال أنهم لا ينقصون من ثوابهم أصلا بل يعطونه يوم القيامة عملا مع ما زكاهم الله تعالى ومدحهم في الدنيا.

وقيل: هو استئناف، والضمير عائد على الموصولين من زكى نفسه، ومن زكاه الله تعالى أي لا ينقص هذا من ثوابه ولا ذاك من عقابه، والأول أمس بمقام الوعيد، وانتصاب فَتِيلًا على أنه مفعول ثان كقولك: ظلمته حقه، قال علي بن عيسى: ويحتمل أن يكون تمييزا كقولك: تصببت عرقا.

انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في زعمهم أنهم أزكياء عند الله تعالى المتضمن لزعمهم قبول الله تعالى وارتضاءه إياهم ولشناعة هذا لما فيه من نسبته تعالى إلى ما يستحل عليه بالكلية وجه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب الدال عليه الكلام وإلا فهم أيضا مفترون على أنفسهم بادعائهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه، وكَيْفَ في موضع نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهور بين سيبويه، والأخفش، والعامل يَفْتَرُونَ وبِهِ متعلق به.

وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من الكذب، وقيل: هو متعلق به، والجملة في موضع النصب بعد نزع الخافض وفعل النظر معلق بذلك والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا للمبالغة في تقبيح حالهم وَكَفى بِهِ أي بافترائهم، وقيل: بهذا الكذب الخاص إِثْماً مُبِيناً لا يخفى كونه مأثما من بين آثامهم وهذا عبارة عن كونه عظيما منكرا، والجملة كما قال عصام الملة: في موضع الحال بتقدير قد أي- كيف يفترون الكذب والحال أن ذلك ينافي مضمونه لأنه إثم مبين- والآثم بالإثم المبين غير المتحاشى عنه مع ظهوره لا يكون ابن الله سبحانه وتعالى وحبيبه ولا يكون زكيا عند الله تعالى، وانتصاب إِثْماً على التمييز.

<<  <  ج: ص:  >  >>