للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في النهاية، ويقال: هو على دبتي أي طريقتي وسمتي، وفي حديث ابن عباس «اتبعوا دبة قريش ولا تفارقوا الجماعة» والمعنى حينئذ أنهم أخذ بهم تارة طريقا وأخرى أخرى لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أي لا منسوبين إلى المؤمنين حقيقة لإضمارهم الكفر، ولا إلى الكافرين لإظهارهم الإيمان، أو لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين، ومحله النصب على أنه حال من ضمير مُذَبْذَبِينَ أو على أنه بدل منه، ويحتمل أن يكون بيانا وتفسيرا له وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ لعدم استعداده للهداية والتوفيق فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه إليه، والخطاب لكل من يصلح له وهو أبلغ في التفظيع.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نهي المؤمنين الصادقين عن موالاة الكفار اليهود فقط- كما قيل- أو ما يعمهم وغيرهم كما هو الظاهر بعد بيان حال المنافقين، أي لا تتخذوهم أولياء فإن ذلك ديدن المنافقين ودينهم فلا تتشبهوا بهم، وقيل: المراد بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون، فالآية نهي للمنافقين عن موالاة الكافرين دون المخلصين وقيل: المراد بالموصول المخلصون، وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل: قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء، وإلى ذلك ذهب القفال، وفي كلا القولين بعد أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة ظاهرة في العذاب، وفيه دلالة على أن الله تعالى لا يعذب أحدا بمقتضى حكمته إلا بعد قيام الحجة عليه، ويشعر بذلك كثير من الآيات، وقيل: أتريدون بذلك أن تجعلوا له تعالى حجة بينة على أنكم موافقون (١) فإن موالاة الكافرين أوضح أدلة النفاق.

ومن الناس من أبقى السلطان على معناه المعروف، لكن أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهو مما يجوز فيه التذكير والتأنيث إجماعا، فتذكيره باعتبار البرهان أو باعتبار معناه المعروف، والتأنيث باعتبار الحجة والتأنيث أكثر عند الفصحاء على ما قاله الفراء إلا أنه لم يعتبر هنا، واعتبر التذكير لتحسن الفاصلة، وادعى ابن عطية أن التذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع، وعَلَيْكُمْ يجوز تعلقه بالجعل وبمحذوف وقع حالا من سُلْطاناً، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: أتجعلون إلخ للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي في الطبقة السفلى منها وهو قعرها، ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل: جهنم، والثانية لظى، والثالثة الحطمة والرابعة السعير، والخامسة سقر، والسادسة الجحيم، والسابعة الهاوية. وقد تسمى النار جميعا باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض، والدَّرْكِ كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج باعتبار الصعود، وفي كون المنافق فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ إشارة إلى شدة عذابه.

وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود- أن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل- وإنما كان أشدّ عذابا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر المشترك استهزاء بالإسلام وخداعا لأهله، وأما ما

روي في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد غدر، وإذا خاصم فجر»

فقد قال المحدثون فيه: إنه مخصوص بزمانه صلّى الله عليه وسلّم لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه


(١) قوله: «موافقون» وقوله بعده في الحديث: «وإذا وعد غدر» كذا بخطه.

<<  <  ج: ص:  >  >>