ليس البيت كالمثال لأنه قد يتخيل فيه عموم على معنى السلاح، وأما زيد فلا يتوهم فيه عموم ولا يمكن تصحيحه إلا على أن أصله ما جاءني زيد ولا غيره، فحذف المعطوف لدلالة الاستثناء وكذا الآية التي ذكرت، ورد- كما قال الشهاب- بأنه لو كان التقدير ما ذكره في المثال لكان الاستثناء متصلا والمفروض خلافه، وأن المراد- كما يفهمه كلام الطيبي- جعل المبدل منه بمنزلة غير المذكور حتى كأن الاستثناء مفرغ والنفي عام إلا إنه صرح بنفي بعض أفراد العام لزيادة اهتمام بالنفي عنه، أو لكونه مظنة توهم الإثبات، فيقولون: ما جاءني زيد إلا عمرو، والمعنى ما جاءني إلا عمرو فكذا هاهنا المعنى- لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم- فأدخل لفظ اللَّهُ تأكيدا لنفي محبته تعالى يعني لله سبحانه اختصاص في عدم محبته ليس لأحد غيره ذلك.
فإن قيل: ما بعد إِلَّا حينئذ لا يكون فاعلا وهو ظاهر فتعين البدل وهو غلط، أجيب بأنه إنما يكون غلطا لو لم يكن هذا الخاص في موقع العام، ولم يكن المعنى ما جاءني أحد إلا عمرو «فإن قيل» : فيكون لفظ اللَّهُ مجازا عن أحد ولا سبيل إليه، أجيب بأن لا يحب الله مؤول بلا يحب أحد، وواقع موقعه من غير تجوز في لفظ اللَّهُ كذا قيل وتعقبه الشهاب بأن المستثنى منه إذا كان عاما، فإما بتقدير لفظ- كما ذكره أبو حيان- وإما بالتجوز في لفظ العلم، وكلاهما مرّ ما فيه، ولا طريق آخر للعموم، فما ذكره المجيب لا بد من بيان طريقه اللهم إلا أن يقال: إن الاستثناء من العلم يشترط فيه أن يكون صاحبه أحق بالحكم بحيث إذا نفي عنه يعلم نفيه عن غيره بالطريق الأولى من غير تقدير ولا تجوز فيقال هنا مثلا: إذا لم يحب الله سبحانه الجهر بالسوء وهو الغني عن جميع الأشياء فغيره لا يحبه بطريق من الطرق، وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لأن الاشتراط المذكور مما لم يقم عليه دليل على أن دعوى كون نفي حب الجهر بالسوء عنه تعالى يعلم منه نفيه عن غيره بالطريق الأولى في غاية الخفاء، فالأولى ما ذكره بعد بأن يقال يقدر في الكلام ما ذكر لكنه عد الاستثناء منقطعا بحسب المتبادر، والنظر إلى الظاهر.
وجوّز على قراءة المعلوم أن يكون متعلقا بالسوء أي إلا سوء من ظلم فيجب الجهر به ويقبله، وقيل: إنه متعلق بقوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ فقد روي عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقول هذا على التقديم والتأخير أي- ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، إلا من ظلم- وكان يقرأها كذلك، ولا يكاد يقبل هذا في تخريج كلام الله تعالى العزيز وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بجميع المسموعات فيندرج فيها كلام المظلوم والظالم عَلِيماً بجميع المعلومات التي من جملتها حال المظلوم والظالم، والجملة تذييل مقرر لما يفيده الاستثناء ولا يأبى ذلك التعميم كما توهم.
ووجه ربط هذه الآية بما قبلها- على ما قاله العلامة الطيبي- أنه سبحانه لما فرغ من بيان إيراد رحمته وتقرير إظهار رأفته جاء بقوله جل وعلا: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ تتميما لذلك وتعليما للعباد التخلق بأخلاقه جل جلاله، وفيه أن هذا مما لا محصل له ولا تتم به المناسبة، وزعم أن الآية الأولى فيها أيضا إشارة إلى تعليم التخلق بالأخلاق العلية- كما قرره عصام الملة- ورجا أن يكون من الملهمات، وحينئذ يشتركان في أن كلا منهما متضمنا (١) التعليم المذكور ليس بشيء كما لا يخفى، ومثل ذلك ما ذكره علي بن عيسى في وجه الاتصال وهو أنه تعالى شأنه لما ذكر أهل النفاق، وهو إظهار خلاف ما يبطن بيّن جل وعلا أن ما في النفس منه ما يجوز إبطانه ومنه ما يجوز إظهاره، وقال شهاب الدين: الظاهر أنه لما ذكر الشكر على وجه علم منه رضاه سبحانه به ومحبة إظهاره تممه