فيرفع المجاز عنه، وأما رفعه المجاز عن الإسناد بأن يكون المكلم رسله من الملائكة كما يقال قال الخليفة كذا إذا قاله وزيره فلا، مع أنه أكد الفعل، والمراد به معنى مجازي كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان.
بكى الخز من روح وأنكر جلده ... وعجت عجيجا من جذام المطارف
فأكدت «عجت» مع أنه مجاز لأن الثياب لا تعج وما نقل عن الفراء من أن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر. فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام لا يفي بالمقصود إذ نهاية ما فيه رفع المجاز عن الفعل في هذه المادة، ولا تعرض له لرفع المجاز عن الإسناد فللخصم أن يقول: التكليم حقيقة إلا أن إسناده إلى الله تعالى مجاز ولا تقوم الآية حجة عليه إلا بنفي ذلك الاحتمال، نعم إنها ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة. والجملة إما معطوفة على قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ عطف القصة على القصة لا على- آتينا- وما عطف عليه، وإما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات، والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي وأعلاها، وقد خص به من بين الأنبياء الذين اعترفتم بنبوتهم موسى عليه السلام ولم يقدح ذلك فيهم أصلا فكيف يتوهم أن نزول التوراة عليه جملة قادح في نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور حكمة ذلك.
هذا وقد تقدم لك كيفية سماع موسى عليه السلام لكلام الله عز وجل، وقد وقع التكليم أيضا لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم في الإسراء مع زيادة رفعة، بل ما من معجزة لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم مثلها مع زيادة شرف له شرفه الله تعالى، بل ما من ذرة نور شعث في العالمين إلا تصدقت بها شمس ذاته صلّى الله عليه وسلّم، ولله سبحانه در البوصيري حيث يقول:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم
فصلى الله تعالى عليه وسلّم تسليما كثيرا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ نصب على المدح، أو بإضمار أرسلنا أو على الحال من رُسُلًا الذي قبله، أو ضميره وهي حال موطئة والمقصود وصفها. وضعف هذا بأنه حينئذ لا وجه للفصل بين الحال وذيها، وجوز أن يكون نصبا على البدلية من رُسُلًا الأول، وضعف بأن اتحاد البدل والمبدل منه لفظا بعيد، وإن كان المعتمد بالبدلية الوصف أي مُبَشِّرِينَ من آمن وأطاع بالجنة والثواب وَمُنْذِرِينَ من كفر وعصى بالنار والعقاب لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ أي معذرة يعتذرون بها قائلين لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: ١٣٤] فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوى البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها. فالآية ظاهرة في أنه لا بد من الشرع وإرسال الرسل وأن العقل لا يغني عن ذلك، وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن إرسال الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعتري الإنسان من دون اختيار، فمعنى الآية عندهم لئلا يبقى للناس على الله حجة، وسيأتي ردّ ذلك إن شاء الله تعالى مع تحقيق هذا المبحث.
وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حُجَّةٌ مجاز بتنزيل المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها، فلا يبطل قول أهل السنة إنه لا اعتراض لأحد على الله تعالى في فعل من أفعاله بل له سبحانه أن يفعل بمن شاء ما شاء، واللام متعلقة- بأرسلنا- المقدر، أو- بمبشرين ومنذرين- على التنازع، وجوز أن تتعلق بما يدلان عليه، وحُجَّةٌ اسم كان وخبرها لِلنَّاسِ، وعَلَى اللَّهِ حال من حُجَّةٌ ويجوز أن يكون الخبر عَلَى اللَّهِ ولِلنَّاسِ حال، ولا يجوز أن