روحا لأنه حدث عن نفخة جبرائيل عليه السلام في درع مريم عليها السلام بأمره سبحانه، وجاء تسمية النفخ روحا في كلامهم، ومنه قول ذي الرمة في نار وأحيها بروحك. ومن- متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح، وهي لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى.
يحكى أن طبيبا نصرانيا حاذقا للرشيد ناظر علي بن الحسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ الواقدي قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية: ١٣] فقال: إذن يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءا منه سبحانه وتعالى علوا كبيرا فانقطع النصراني فأسلم، وفرح الرشيد فرحا شديدا، ووصل الواقدي بصلة فاخرة، وقيل: سمي روحا لأن الناس يحيون به كما يحيون بالأرواح، وإلى ذلك ذهب الجبائي، وقيل: الروح هنا بمعنى الرحمة كما في قوله تعالى:
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: ٢٢] على وجه، وقيل: أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم عليها السلام بالبشارة، وقيل: جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح فلما كان عيسى عليه السلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح، وقيل: أريد بالروح السر كما يقال: روح هذه المسألة كذا أي أنه عليه السلام سر من أسرار الله تعالى وآية من آياته سبحانه، وقيل: المراد ذو روح على حذف المضاف، أو استعمال الروح في معنى ذي الروح، والإضافة إلى الله تعالى للتشريف، ونظير ذلك ما في التوراة إن موسى عليه السلام رجل الله وعصاه قضيب الله. وأورشليم بيت الله، وقيل: المراد من الروح جبريل عليه السلام، والعطف على الضمير المستكن في أَلْقاها والمعنى ألقاها الله تعالى وجبريل إلى مريم، ولا يخفى بعده وعلى العلات لا حجة للنصارى على شيء مما زعموا في تشريف عيسى عليه السلام بنسبة الروح إليه لغيره عليه السلام مشاركة له في ذلك، ففي إنجيل لوقا قال يسوع لتلاميذه: إن أباكم السماوي يعطي روح القدس الذين يسألونه، وفي إنجيل متى: إن يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه، وفي التوراة: قال الله تعالى لموسى عليه السلام اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك فيحملوا عنك ثقل هذا النعت، ففعل فأفاض عليهم من روحه فتبنوا لساعتهم، وفيها في حق يوسف عليه السلام يقول الملك: هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح الله تعالى عز وجل فيه، وفيها أيضا: إن روح الله تعالى حلت على دانيال إلى غير ذلك.
ولعل الروح في جميع ذلك أمر قدسي وسر إلهي يفيضه الله تعالى على من يشاء من عباد حسبما يشاء وفي أي وقت يشاء، وإطلاق ذلك على عيسى عليه السلام من باب المبالغة على حد ما قيل في زيد: عدل، وليس المراد به الروح الذي به الحياة أصلا، وقد يظهر ذلك بصورة كما يظهر القرآن بصورة الرجل الشاحب، والموت بصورة الكبش، ويؤيد ذلك في الجملة ما في إنجيل متى في تمام الكلام على تعميد عيسى عليه السلام: إن يسوع لما تعمد وخرج من الماء انفتحت له أبواب السماء ونظر روح الله تعالى جاءت له في صفة حمامة وإذا بصوت من السماء هذا ابن الحبيب الذي سرت به نفسي فإنه على تقدير صحته يهدم ما يزعمه النصارى من أنه عليه السلام تجسد بروح القدس في بطن أمه: وما فيه من وصفه عليه السلام بالنبوة سيأتي إن شاء الله تعالى الجواب عنه.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وخصوه بالألوهية وَرُسُلِهِ أجمعين ولا تخرجوا أحدا منهم إلى ما يستحيل وصفه به من الألوهية وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي الآلهة ثلاثة: الله سبحانه، والمسيح، ومريم كما ينبىء عنه قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: ١١٦] إذ معناه «إلهين» غير الله تعالى فيكونون معه ثلاثة.
وحكي هذا التقدير عن الزجاج، أو الله سبحانه ثلاثة إن صح عنهم أنهم يقولون: الله تعالى جوهر واحد ثلاثة