الصفة عن الموصوف، الثاني أنه يلزم منه قيام صفة حال مجاورتها للناسوت بنفسها وهو محال، وإن لم يقل بانفصال الأقنوم عن الجوهر القديم يلزم منه أن يكون ذات الجوهر القديم متصلة بجسد المسيح ضرورة اتصال أقنومها به، وعند ذلك فليس اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى من اتحاد الجوهر القديم به ولم يقولوا بذلك، وإن لم يقل بتجاورهما واتصالهما فلا معنى للاتحاد بجسد المسيح، وليس القول بالاتحاد مع عدم الاتصال بجسد المسيح أولى من العكس، وأما قول من قال منهم: إن الإله واحد، وإن المسيح ولد من مريم وإنه عبد صالح مخلوق إلا أن الله تعالى شرفه بتسميته ابنا فهو كما يقول الموحدون، ولا خلاف معهم في غير إطلاق اسم الابن، وأما قول بعض اليعقوبية: إن الكلمة انقلبت لحما ودما وصار الإله هو المسيح فهو أظهر بطلانا مما تقدم وبيانه من وجهين: الأول أنه لو جاز انقلاب الأقنوم لحما ودما مع اختلاف حقيقتيهما لجاز انقلاب المستحيل ممكنا والممكن مستحيلا والواجب ممكنا أو ممتنعا والممكن- أو الممتنع- واجبا، ولم يبق لأحد وثوق بشيء من القضايا البديهية، ولجاز انقلاب الجوهر عرضا والعرض جوهرا، واللحم والدم أقنوما، والأقنوم ذاتا، والذات أقنوما، والقديم حادثا والحادث قديما، ولم يقل به أحد من العقلاء، الثاني أنه لو انقلب الأقنوم لحما ودما، فإما أن يكون هو عين الدم واللحم اللذين كانا للمسيح، أو زائدا عليه منضما إليه، والأول ظاهر الفساد، والثاني لم يقولوا به وأما ما نقل عن يوحنا من قوله: في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله هو الكلمة، فهو مما انفرد به ولم يوجد في شيء من الأناجيل، والظاهر أنه كذب، فإنه بمنزلة قول القائل: الدينار عند الصيرفي والصيرفي هو الدينار، ولا يكاد يتفوه به عاقل، وكذا قوله: إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا غير مسلم الثبوت، وعلى تقدير تسليمه يحتمل التقديم والتأخير. أي إن الجسد الذي صار بالتسمية كلمة حل فينا، وعنى بذلك الجسد عيسى عليه السلام، ويحتمل أنه أشار بذلك إلى بطرس، كبير التلاميذ ووصي المسيح، فإنه أقام بعده عليه السلام بتدبير دينه وكانت النصارى تفزع إليه على ما تشهد به كتبهم، فكأنه يقول: إن ذهبت الكلمة أي عيسى الذي سماه الله تعالى بذلك من بيننا فإنها لم تذهب حتى صارت جسدا وحل فينا، يريد أن تدبيرها حاضر في جسد بيننا وهو بطرس.
ومن الناس من خرج كلامه على إسقاط همزة الإنكار عند إخراجه من العبراني إلى اللسان العربي، والمراد أصارت وفيه بعد، ومن العجب العجيب أن يوحنا ذكر أن المسيح قال لتلاميذه: إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فلا حياة لكم بعدي لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، ومن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأثبت فيه، فلما سمع تلاميذه هذه الكلمة قالوا: ما أصعبها من يطيق سماعها فرجع كثير منهم عن صحبته، فإن هذا مع قوله: إن الله سبحانه هو الكلمة والكلمة صارت جسدا في غاية الإشكال إذ فيه أمر الحادث بأكل الله تعالى القديم الأزلي وشربه، والحق أن شيئا من الكلامين لم يثبت، فلا نتحمل مؤنة التأويل.
وأما قولهم: إن اللاهوت ظهر بالناسوت فصار هو هو، فإما أن يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت كما يصرح به قولهم: صار هو هو، فيرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق وهو محال كما علمت وإما أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت فهو أيضا محال لما ثبت من امتناع حلول الحادث بالقديم، أو أن الناسوت اتصف باللاهوت وهو أيضا محال لامتناع حلول القديم بالحادث، وأما من قال منهم: بأن جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا وصارا جوهرا واحدا هو المسيح فباطل من وجهين: الأول ما ذكر من إبطال الاتحاد، الثاني أنه ليس جعل الناسوت لاهوتا بتركبه مع اللاهوت أولى من جعل اللاهوت ناسوتا من جهة تركبه مع الناسوت ولم يقولوا به، وأما جوهر الفحمة إذا ألقيت في النار فلا نسلم أنه صار بعينه جوهر النار بل صار مجاورا لجوهر النار، وغايته أن بعض صفات جوهر الفحمة وأعراضها بطلت بمجاورة جوهر النار، أما إن جوهر أحدهما صار جوهر الآخر فلا.