أولا، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحيانا تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا السياق، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى، ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: ٢٣] استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقديم الأدنى، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن يريد نهيا عن أعلى من التأفيف والانتهار لأنه مستغنى عنه، وما يحتاج المدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها، ولما اقتضى الإنصاف تسليم اقتضاء الآية لتفضيل الملائكة، وكان القول بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اعتقادا لأكثر أهل السنة والشيعة التزم حمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف، وذلك تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار.
وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الردّ على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة، فناسب ذلك أن يقال: هذا الذي صدرت على يديه هذه الخوارق لا يستنكف عن عبادة الله تعالى بل من هو أكثر خوارقا وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام، وقد بلغ من قوته وإقدار الله تعالى له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلبها عاليها سافلها فيكون تفضيل الملائكة إذن بهذا الاعتبار، ولا خلاف في أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء، وليس في الآية عليه دليل، وقد يقال: لما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى عليه السلام كونه موجودا من غير أب أنبأ الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة الله تعالى ولا الملائكة الموجودون من غير أب ولا أم، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى عليه السلام، ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام، فنظر الغريب بالأغرب وشبه العجيب من آثار قدرته بالأعجب إذ عيسى مخلوق من آدم عليهما الصلاة والسلام وآدم عليه السلام من غير أب ولا أم، ولذلك قال سبحانه: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٥٩] ومدار هذا البحث على النكتة التي أشير إليها. فمتى استقام اشتمال المذكور ثانيا على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأي طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد فقد طابق صيغة الآية انتهى.
وبالجملة المسألة سمعية، وتفصيل الأدلة والمذاهب فيها حشو الكتب الكلامية، والقطع فيها منوط بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر.
وقد ذكر الآمدي في أبكار الأفكار بعد بسط كلام ونقض وإبرام أن هذه المسألة ظنية لا حظ للقطع فيها نفيا وإثباتا، ومدارها على الأدلة السمعية دون الأدلة العقلية، وقال أفضل المعاصرين صالح أفندي الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في تعليقاته على البيضاوي: الأولى عندي التوقف في هذه المسألة بالنسبة إلى غير نبينا صلّى الله عليه وسلّم إذ لا قاطع يدل على الحكم فيها وليس معرفة ذلك ما كلفنا به، والباب ذو خطر لا ينبغي المجاذفة فيه، فالوقف أسلم والله تعالى أعلم مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ
أي طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم له تعالى وإنما جعل المستنكف عنه هاهنا عبادته تعالى لا ما سبق- كما قال شيخ الإسلام- لتعليق الوعيد بالوصف الظاهر الثبوت للكفرة فإن عدم طاعتهم له تعالى مما لا سبيل لهم إلى إنكار اتصافهم به، وعبر سبحانه عن عدم طاعتهم له بالاستنكاف مع أن ذلك كان منهم بطريق إنكار كون الأمر من جهته تعالى لا بطريق الاستنكاف لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الاستنكاف عن طاعة الله تعالى إذ لا أمر له صلّى الله عليه وسلّم سوى أمره عز وجل مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: ٨٠] .