يلي أمورهم ويدبر مصالحهم وَلا نَصِيراً ينصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لكافة المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون الكفر والضلال وإلزامهم بما تخر له صم الجبال، وفيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر قَدْ جاءَكُمْ أتاكم ووصل إليكم بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي حجة قاطعة، والمراد بها المعجزات على ما قيل.
وأخرج ابن عساكر عن سفيان الثوري عن أبيه عن رجل لا يحفظ اسمه إن المراد بالبرهان هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: المراد بذلك دين الحق الذي جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتنوين للتفخيم، ومن- لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة- بجاء- أو بمحذوف وقع صفة مشرفة- لبرهان- مؤكدة لما أفاده التنوين، وجوز أن تكون تبعيضية بحذف المضاف أي كائن من براهين ربكم، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيء ذلك لتربيتهم وتكميلهم.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ بواسطة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي عدم ذكر الواسطة إظهار لكمال اللطف بهم ومبالغة في الأعذار نُوراً مُبِيناً وهو القرآن- كما قاله قتادة ومجاهد والسدي واحتمال إرادة الكتب السابقة الدالة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم بعيد غاية البعد، وإذا كان المراد من البرهان القرآن أيضا فقد سلك به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلا للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية، وإطلاق البرهان عليه لأنه أقوى دليل على صدق من جاء به، وإطلاق النور المبين لأنه بيّن بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من الله تعالى بإعجازه غير محتاج إلى غيره، مبين لغيره من حقية الحق وبطلان الباطل، مهدي للخلق بإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجيء المسند إليه المنبئ عن كمال قوته في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيثبت ما ثبت من غير أن يجيء به أحد، ويجيء على شبه الكفرة بالإبطال والأخرى بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورا توفيرا له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به، وإسناد إنزاله إليه تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه- قاله مولانا شيخ الإسلام- والأمر على غير ذلك التقدير هين فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ حسبما يوجبه البرهان الذي جاءهم وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي عصموا به سبحانه أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان وغيره.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أن الضمير راجع إلى القرآن أعني النور المبين، وهو خلاف الظاهر فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ أي ثواب عظيم قدره بإزاء إيمانهم وعملهم رحمة منه سبحانه لا قضاء لحق واجب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرحمة الجنة، فعلى الأول التجوز في كلمة فِي لتشبيه عموم الثواب وشموله بعموم الظرف، وعلى الثاني التجوز في المجرور دون الجار- قاله الشهاب- والبحث في ذلك شهير ومِنْهُ متعلق بمحذوف وقع صفة مشرفة لرحمة وَفَضْلٍ أي إحسان لا يقادر قدره زائد على ذلك.
وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي إلى الله عز وجل، والمراد في المشهور إلى عبادته سبحانه، وقيل: الضمير عائد على جميع ما قبله باعتبار أنه موعود، وقيل: على الفضل صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الإسلام والطاعة في الدنيا، وطريق الجنة في الأخرى، وتقديم ذكر الوعد بالإدخال في الرحمة الثواب أو الجنة على الوعد بهذه الهداية للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي.
وفي وجه انتصاب صِراطاً أقوال، فقيل: إنه مفعول ثان لفعل مقدر أي يعرفهم صِراطاً، وقيل: إنه مفعول ثان ليهديهم باعتبار تضمينه معنى يعرفهم، وقيل: مفعول ثان له بناء على أن الهداية تتعدى إلى مفعولين حقيقة.