للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي أول المراتب كما قيل، ومراده من هذا الجواب أنك إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لا من قبلي، فلم تقتلني وما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول؟! وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان.

وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا لا في إزالة حظه ونعمته، فإن اجتهاده فيما ذكر يضره ولا ينفعه، وقيل: مراده الكناية عن أنه لا يمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق والمتقي يؤثر الامتثال على الحياة، أو الكناية عن أنه لا يقتله دفعا لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده، ولا يخفى بعده وما أنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك، فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله تعالى يقول: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ قيل: كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله تعالى لأن المدافعة لم تكن جائزة في ذلك الوقت، وفي تلك الشريعة- كما روي عن مجاهد- وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج- قال: كانت بنو إسرائيل قد كتب عليهم إذا الرجل بسط يده إلى الرجل لا يمتنع منه حتى يقتله أو يدعه، أو تحريا لما هو الأفضل الأكثر ثوابا وهو كونه مقتولا لا قاتلا بالدفع عن نفسه بناء على جوازه إذ ذاك، قال بعض المحققين: واختلف في هذا الآن على ما بسطه الإمام الجصاص فالصحيح من المذهب أنه يلزم الرجل دفع الفساد عن نفسه وغيره وإن أدى إلى القتل، ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره: إن المعنى في الآية لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ على سبيل الظلم والابتداء لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ على وجه الظلم والابتداء، وتكون الآية على ما قاله مجاهد وابن جريج: منسوخة، وهل نسخت قبل شريعتنا أم لا؟ فيه كلام، والدليل عليه قوله تعالى: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ [الحجرات: ٩] وغيره من الآيات والأحاديث، وقيل: إنه لا يلزم ذلك بل يجوز، واستدل بما

أخرجه ابن سعد في الطبقات عن خباب بن الأرت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر «فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل»

وأولوه بترك القتال في الفتنة واجتنابها وأول الحديث يدل عليه، وأما من منع ذلك الآن مستدلا

بحديث: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»

فقد رد بأن المراد به أن يكون كل منهما عزم على قتل أخيه وإن لم يقاتله وتقابلا بهذا القصد انتهى بزيادة.

وعن السيد المرتضى أن الآية ليست من محل النزاع لأن اللام الداخلة على فعل القتل لام كي وهي منبئة عن الإرادة والغرض، ولا شبهة في قبح ذلك أولا وآخرا لأن المدافع إنما يحسن منه المدافعة للظالم طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله، فكأنه قال له: لئن ظلمتني لم أظلمك وإنما قال سبحانه: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ في جواب لَئِنْ بَسَطْتَ للمبالغة في أنه ليس من شأنه ذلك ولا ممن يتصف به، ولذلك أكد النفي بالباء ولم يقل وما أنا بقاتل بل قال: بِباسِطٍ للتبري عن مقدمات القتل فضلا عنه، وقدم الجار والمجرور المتعلق- ببسطت- إيذانا على ما قيل من أول الأمر برجوع ضرر البسط وغائلته إليه، ويخطر لي أنه قدم لتعجيل تذكيره بنفسه المنجر إلى تذكيره بالأخوة المانعة عن القتل، وقوله تعالى: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ تعليل للامتناع عن بسط يده ليقتله، وفيه إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى على أتم وجه، وتعريض بأن القاتل لا يخاف الله تعالى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ تعليل آخر لامتناعه عن البسط، ولما كان كل منهما علة مستقلة لم يعطف أحدهما على الآخر إيذانا بالاستقلال ودفعا لتوهم أن يكون جزء علة لا علة تامة، وأصل البوء اللزوم، وفي النهاية: أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي أي ألتزم وأرجع

<<  <  ج: ص:  >  >>