الإرادة، فإن كون المخاطب من أصحاب النار إنما يترتب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلاء بعقوبتهما وهو ظاهر، وحمل العقوبة على نوع آخر يترتب عليه العقوبة النارية يرده- كما قال شيخ الإسلام- قوله سبحانه: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فإنه صريح في أن كونه من أصحاب النار تمام العقوبة وكمالها، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهي من كلام هابيل على ما هو الظاهر، وقيل: بل هي إخبار منه تعالى للرسول صلّى الله عليه وسلّم فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع، وترتيب التطويع على ما قبله من مقالات هابيل مع تحققه قبل كما يفصح عنه قوله: لَأَقْتُلَنَّكَ لما أن بقاء الفعل بعد تقرر ما يزيله- وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر- لكنه في الحقيقة أمر حادث وصنع جديد، أو لأن هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناء على تردده في قدرته على القتل لما أن أخاه كان أقوى منه، وأنها حصلت بعد وقوفه على استسلامه وعدم معارضته له، والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه، وقرأ الحسن- فطاوعت- وفيها وجهان: الأول أن فاعل بمعنى فعل كما ذكره سيبويه وغيره، وهو أوفق بالقراءة المتواترة، والثاني أن المفاعلة مجازية بجعل القتل يدعو النفس إلى الإقدام عليه وجعلت النفس تأباه، فكل من القتل والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى أن غلب القتل النفس فطاوعته، ولَهُ للتأكيد والتبيين كما في قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: ١] .
والقول بأنه للاحتراز عن أن يكون طوعت لغيره أن يقتله ليس بشيء فَقَتَلَهُ أخرج ابن جرير عن ابن مجاهد، وابن جريج أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير فأخذ طيرا فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل فقتله كذلك وهو مستسلم،
وأخرج عن ابن مسعود، وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن قابيل طلب أخاه ليقتله فراغ منه في رؤوس الجبال فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن إلى أن بعث الله تعالى الغراب،
وكان لهابيل لما قتل عشرون سنة، واختلف في موضع قتله، فعن عمر الشعباني عن كعب الأحبار أنه قتل على جبل دير المران، وفي رواية عنه أنه قتل على جبل قاسيون، وقيل: عند عقبة حراء، وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم،
وأخرج نعيم بن حماد عن عبد الرحمن بن فضالة أنه لما قتل قابيل هابيل مسخ الله تعالى عقله وخلع فؤاده فلم يزل تائها حتى مات،
وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلا، قال: بل قتلته ولذلك اسود جسدك،
وأخرج ابن عساكر وابن جرير عن سالم بن أبي الجعد قال: إن آدم عليه السلام لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك حزنا عليه فأتى على رأس المائة، فقيل له: حياك الله تعالى وبياك وبشر بغلام، فعند ذلك ضحك، وذكر محيي السنة أنه عليه السلام ولد له بعد قتل ولده بخمسين سنة شيث عليه السلام،
وتفسيره- هبة الله- يعني أنه خلف من هابيل، وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعبادة الخلق من كل ساعة منها، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وصار وصي آدم وولي عهده،
وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما قتل ابن آدم عليه السلام أخاه بكى آدم عليه السلام ورثاه بشعر،
وأخرج نحو ذلك الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مشهور.
وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر رضي الله تعالى عنه أنه قال: من قال: إن آدم عليه السلام قال شعرا فقد كذب إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسرياني فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، فنظر فيه فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا، وذكر بعض علماء العربية إن في ذلك الشعر لحنا، أو إقواء، أو ارتكاب ضرورة، والأولى عدم