للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والسلام بجامع الكرامة، وإن تفاوت قوة وضعفا، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام، وما في الخبر الأول ليس نصا في محل النزاع، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به، وتساوي حالتي حياته ووفاته صلّى الله عليه وسلّم في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه، ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنه، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلّى الله عليه وسلّم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون- فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدنى مساغ لذلك، فعدولهم هذا- مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق- دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره.

وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلّى الله عليه وسلّم مع التفاوت في الكرامة- الذي لا ينكره إلا منافق- مما لا يكاد يسلم، على أنك قد علمت أن الإقسام به عليه الصلاة والسلام على ربه عز شأنه حيا وميتا مما لم يقم النص عليه لا يقال: إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به صلّى الله عليه وسلّم حيا وكذا بغيره كذلك، أما الأول فلقول عمر رضي الله تعالى عنه فيه: كنا نتوسل بنبيك صلّى الله عليه وسلّم، وأما الثاني فلقوله: إنا نتوسل بعم نبيك لما قيل: إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا، وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه- وهذا هو محل النزاع- وقد علمت الكلام فيه، وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل- اللهم أسألك بجاه فلان- فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك، وقال: إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته فيقال: أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله، المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك الحديث، ونحو ذلك من الأدعية المأثورة، وما يذكره بعض العامة من

قوله صلّى الله عليه وسلّم:- إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله تعالى عظيم-

لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو شيء في كتب الحديث، وما رواه القشيري عن معروف الكرخي قدس سره- أنه قال لتلامذته:

إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله- الآن لا يوجد له سند يعول عليه عند المحدثين، وأما ما

رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة،

ففي سنده العوفي- وفيه ضعف- وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم يقال فيه: إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم، والحق بمعنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع فضلا لا وجوبا كما في قوله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ

[الروم: ٤٧] ،

وفي الصحيح من حديث معاذ- حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحقهم عليه

<<  <  ج: ص:  >  >>