والتكرير مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير والتأكيد، ولذلك كرر قوله سبحانه: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، وقيل: إن الظاهر أنه تعليل لقوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ إلخ. أو توطئة لما بعده، أو المراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة وفيما مر ما يفتريه الأحبار، ويؤيده الفصل بينهما.
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي الحرام من سحته إذا استأصلته، وسمي الحرام سحتا- عند الزجاج- لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار، وقال الجبائي: لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالبا، وقال الخليل: لأن في طريق كسبه عارا فهو يسحت مروءة الإنسان، والمراد به هنا- على المشهور- الرشوة في الحكم، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل: يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم»
وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هدايا الأمراء سحت»
وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أرأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي؟ قال: لا، ولكن كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية،
وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم، قال: ذاك الكفر، وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود نحو ذلك،
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ست خصال من السحت:
رشوة الإمام- وهي أخبث ذلك كله- وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن» ،
وعدّ ابن عباس رضي الله تعالى عنه في رواية ابن منصور والبيهقي عنه أشياء أخر.
قيل: ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر،
وجاء من طرق عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما» .
ولتفاقم الأمر في هذه الأزمان بالارتشاء صدر الأمر من حضرة مولانا- ظل الله تعالى على الخليقة ومجدد نظام رسوم الشريعة والحقيقة- السلطان العدلي محمود خان لا زال محاطا بأمان الله تعالى- حيثما كان في السنة الرابعة والخمسين بعد الألف والمائتين- بمؤاخذة المرتشي وأخويه على أتم وجه، وحد للهدية حدا لئلا يتوصل بها إلى الارتشاء كما يفعله اليوم كثير من الأمراء،
فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستكون من بعدي ولاة يستحلون الخمر بالنبيذ، والنجش بالصدقة، والسحت بالهدية، والقتل بالموعظة يقتلون البريء ليوطئوا العامة يملي لهم فيزدادوا إثما» .
هذا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب «السحت» بضمتين، وهما لغتان- كالعنق والعنق.
وقرىء «السحت» بفتح السين على لفظ المصدر أريد به المسحوت كالصيد بمعنى المصيد، و «السحت» بفتحتين و «السحت» بكسر السين فَإِنْ جاؤُكَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والفاء فصيحة أي إذا كان حالهم كما شرح فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بما أراك الله تعالى أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ غير مبال بهم ولا مكترث، وهذا كما ترى تخيير له صلّى الله عليه وسلّم بين الأمرين، وهو معارض لقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وتحقيق المقام على ما ذكر الجصاص- في كتاب الأحكام- أن العلماء اختلفوا، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى، وروي ذلك عن ابن عباس، وإليه ذهب أكثر السلف: قالوا: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان أولا مخيرا، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بإجراء الأحكام عليهم، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وقيل: إن هذه الآية فيمن لم