للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعترض بأنه على ما فيه ربما يقتضي العكس، وقال بعضهم: إنه لا تعدد حقيقيا في الأرض، ولهذا لم تجمع، وأما التعدد الوارد في بعض الأخبار نحو

قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من غصب قيد شبر من أرض طوقه إلى سبع أرضين»

فمحمول على التعدد باعتبار الأقاليم السبعة، وكذا يحمل ما

أخرجه أبو الشيخ والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل تدرون ما هذه هذه أرض هل تدرون ما تحتها؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال: أرض أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة عام»

والتحتية لا تأبى ذلك فإن الأرض كالسماء كروية، وقد يقال للشيء إذا كان بعد آخر هو تحته، والمراد من

قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بينهما خمسمائة عام أن القوس من إحدى السماوات المسامت لأول إقليم وأول الآخر خمسمائة عام»

ولا شك أن ذلك قد يزيد على هذا المقدار وكثيرا ما يقصد من العدد التكثير لا الكم المعين.

وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: ١٢] محمول على المماثلة في السبعة الموجودة في الأقاليم لا على التعدد الحقيقي، ولا يخفى أن هذا من التكلف الذي لم يدع إليه سوى اتهام قدرة الله تعالى وعجزه سبحانه عن أن يخلق سبع أرضين طبق ما نطق به ظاهر النص الوارد عن حضرة أفصح من نطق بالضاد وأزال بزلال كلامه الكريم أو أم كل صاد، وحمل المماثلة في الآية أيضا على المماثلة التي زعمها صاحب القيل خلاف الظاهر.

ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تتمة الكلام في هذا المقام. وذكر بعض المحققين في وجه تقديم السماوات على الأرض تقدم خلقها على خلق الأرض ولا يخفى أنه قول لبعضهم.

وعن الشيخ الأكبر قدس سره أن خلق المحدد سابق على خلق الأرض وخلق باقي الأفلاك بعد خلق الأرض، وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام، وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من صنوف النعم الآفاقية والأنفسية المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد.

والمراد بالخلق الإنشاء والإيجاد أي أوجد السماوات والأرض وأنشأهما على ما هما عليه مما فيه آيات للمتفكرين وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ عطف على خَلَقَ السَّماواتِ داخل معه في حكم الإشعار بعلة الحمد وإن كان مترتبا عليه لأن جعلهما مسبوق بخلق منشئهما ومحلهما كما قيل، والجعل- كما قال شيخ الإسلام- الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية وللتشريعي أيضا كما في قوله سبحانه: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: ١٠٣] وأيّا ما كان ففيه أنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن يكون فيه أو له أو منه أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان أو مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه، وقيل: الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين أي كونه محصلا من آخر كأنه في ضمنه ولذلك عبر عن أحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية.

واعترض بأن الثنوية يزعمون أن النور والظلمة جسمان قديمان سميعان بصيران أولهما خالق الخير والثاني خالق الشر فهما حينئذ ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفساد يبطل بمجرد هذا، وأيضا أن الرد يحصل لكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في مفهوم الجعل ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود منه، وأيضا أن الجعل المتعدي لواحد كما فيما نحن فيه لا يقتضي كونه غير قائم بنفسه ألا ترى إلى قوله سبحانه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>