كأنه قيل: وما من فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض وجهها أو جوفها، وكذا الوصف في قوله سبحانه وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ لزيادة التعميم أيضا أي ولا فرد من أفراد الطير يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه، وقيل: إنه لقطع مجاز السرعة فقد استعمل الطيران في ذلك كقوله:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
وكذا استعمل الطائر في العمل والنصيب مجازا كما في قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: ١٣] .
واحتمال التجوز مع ذلك بجعله ترشيحا للمجاز بعيد لا يلتفت إليه بدون قرينة، واختار بعض المتأخرين أن وجه الوصف تصوير تلك الهيئة الغريبة الدالة على كمال القوة والقدرة. وأورد على الوجهين السابقين أنه لو قيل: ولا طائر في السماء لكان أخضر وفي إفادة ذينك الأمرين أظهر مع ما فيه من رعاية المناسبة بين القرينتين بذكر جهة العلو في إحداهما وجهة السفل في الأخرى، ورد- كما قال الشهاب- بأنه لو قيل: في السماء يطير بجناحيه لم يشمل أكثر الطيور لعدم استقرارها في السماء، ثم إن قصد التصوير لا ينافي قطع المجاز إذ لا مانع من إرادتهما جميعا كما لا يخفى، ثم لما كان المقصود من ذكر هذين الأمرين الدلالة على كمال قدرته جل وعلا ببيان ما يعرفونه ويشاهدونه من هذين الجنسين وشمول قدرته وعلمه سبحانه لهما كان غيرهما غير مقصود بالبيان، فالاعتراض بأن أمثال حيتان البحر خارجة عنهما، والجواب بأنها داخلة في القسم الأول لأن الأرض فيه بمعنى جهة السفل مما لا يلتفت إليه، وقرأ ابن أبي عبلة وَلا طائِرٍ بالرفع عطف على محل الجار والمجرور كأنه قيل: وما دابة ولا طائر إِلَّا أُمَمٌ أي طوائف متخالفة أَمْثالُكُمْ في أن أحوالها محفوظة وأمورها معنية ومصالحها مرعية جارية على سنن السداد منتظمة في سلك التقديرات الإلهية والتدبيرات الربانية، وجمع الأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم كما اختاره غير واحد، وهو يقتضي جواز أن يقال: لا رجل قائمون، والقياس- كما قيل- لا يأباه إلا أنه لم يرد إلا مع الفصل. وصرح السيد السند بأن النكرة هاهنا محمولة على المجموع من حيث هو مجموع، ولعل مراده أن النكرة المذكورة من حيث الإخبار عنها محمولة على المجموع لا أنه مراد منها، فلا يرد أن الحكم بقوله سبحانه وتعالى:
إِلَّا أُمَمٌ يأبى أن يكون التنكير فيما سبق على ما أشير إليه للفردية لأن الفرد ليس بجماعة، وكذا يأبى أن يكون للنوعية أيضا لأن الفرد ليس بجماعات وهو ظاهر، وأما ما قيل: إن النوع يشتمل على أصناف وكل صنف أمة أو الأمة كل جماعة في زمان فيدفعه توصيف أمم «بأمثالكم» إذ الخطاب بكم لافراد نوع الإنسان فالمناسب تشبيه النوع بالنوع في كونهما محفوظي الأحوال لا تشبيه الصنف بالنوع أو تشبيه جماعة في وقت بالنوع، نعم قال السكاكي في المفتاح: إن ذكر فِي الْأَرْضِ مع دابة ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ مع طائر لبيان أن القصد من لفظ دابة ولفظ طائر إنما هو إلى الجنسين وإلى تقريرهما، وعليه لا إشكال في صحة الحمل لاشتمال كل من الجنسين على أنواع كثيرة كل منها أمة كالإنسان فكأنه قيل: ما من جنس من هذين الجنسين إلا أمم إلخ، وهذا كما يقال: ما من رجل من هذين الرجلين إلا كذا، ومراده أن لفظ دَابَّةٍ وطائِرٍ حامل لمعنى الجنس والواحدة فلبيان أن القصد من كل منهما إلى الجنس من حيث هو دون الوحدة والكثرة وصف بصفة لازمة للجنس من حيث هو أي بلا شرط شيء منهما والاستغراق المستفاد من كلمة من بالنظر إلى الجنسين، وبهذا يندفع القول بوجوب تأويل كلام السكاكي وإرجاعه إلى ما ذكره الزمخشري في هذا المقام، وعليه لا يتصور كون الوصف مفيدا لزيادة التعميم والإحاطة لأن الجنس من حيث هو أي لا بشرط شيء مفهوم واحد كما لا يخفى.