فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه كلام محتمل للشر- كما ذكره في تفسيره- وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق على معنى- أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا- ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك، وقد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول، والشرع ينظر للظاهر وعند الله تعالى علم السرائر، ولهذا سكت المؤمنون ورد الله سبحانه عليهم ما كانوا يسرون، فالكلام كناية عن كمال إيمانهم وليكن في قلب تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [النساء: ٤٦] في احتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه، وجعل رحمه الله تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ من هذا القبيل أيضا، وإلى ذلك مال مولانا الشهاب الخفاجي وادعى أنه من بنات أفكاره، وعندي أنه ليس بشيء لأن أَنُؤْمِنُ لإنكار الفعل في الحال وقولهم كَما آمَنَ السُّفَهاءُ بصيغة الماضي صريح في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق، ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد في بيان المعنى لو آمنوا، ولا أدري من أين أتى به. ولا يصلح العطّار ما أفسد الدهر. فالأهون بعض هاتيك الوجوه، وقوله: إن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام- فضلا عما هو في منصب الإعجاز لا يخفى ما فيه- على من اطلع على محاورات الناس قديما وحديثا وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: ٤] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ رد وأشنع تجهيل حسبما أشير إليه فيما سلف، وإنما قال سبحانه هنا: لا يَعْلَمُونَ وهناك لا يَشْعُرُونَ لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد وهو مما يدرك بأدنى تأمل ولا يحتاج إلى كثير فكر، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر مبالغة في تجهيلهم، والمثبت هنا السفه والمصدر به الأمر بالإيمان وذلك مما يحتاج إلى نظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه خفة العقل والجهل بالأمور- على ما قيل- فيناسبه أتم مناسبة نفي العلم، وهذا مبني على ما هو الظاهر في المفعول وعلى غير الظاهر غير ظاهر فتدبر. ثم اعلم أنه إذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو السفهاء، ألا ففي ذلك أوجه، تحقيق الهمزتين وبذلك قرأ الكوفيون وابن عامر وتحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا وبذلك قرأ الحرميان وأبو عمرو، وتسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو. وتحقيق الثانية وتسهيل الأولى وإبدال الثانية واوا، وأجاز قوم جعل الهمزتين بين بين ومنعه آخرون.
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا بيان لدأب المنافقين وأنهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم آمنا استهزاء فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضا لأن المعنى- ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقا للخداع- وذلك التفوّه عند لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الاستهزاء، وأنهم لا يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة، والقول بأن المراد ب آمَنَّا أولا الإخبار عن إحداث الإيمان وهنا عن إحداث إخلاص الإيمان مما ارتضاه الإمام- ولا أقتدي به- وتأييده له بأن الإقرار اللساني كان معلوما منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك الإخلاص القلبي- فيجب إرادته- يدفعه النظر من ذي ذوق فيما حررناه، واللقاء استقبال الشخص قريبا منه وهو أحد أربعة عشر (١) مصدرا للقي، وقرأ أبو