للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على ما ذكر من باب الترقي من الخفي إلى الأخفى. وقيل: إن القوم كانوا يعبدون الكواكب فاتخذوا لكل كوكب صنما من المعادن المنسوبة إليه كالذهب للشمس والفضة للقمر ليتقربوا إليها فكان الصنم كالقبلة لهم فأنكر أولا عبادتهم للأصنام بحسب الظاهر ثم أبطل منشآتها وما نسبت إليه من الكواكب بعدم استحقاقها لذلك أيضا، ولعلهم كانوا يعتقدون تأثيرها استقلالا دون تأثير الأصنام ولهذا تعرض لبطلان الإلهية في الأصنام والربوبية فيها. وقرأ أبو عمرو وورش من طريق البخاري «رأي» بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، ويحيى عن أبي بكر «رأئي» بكسر الراء والهمزة فَلَمَّا أَفَلَ أي غرب: قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال، ونفي المحبة قيل: إشارة إلى نفي اعتقاد الربوبية.

وقيل كني بعدم المحبة عن عدم العبادة لأنه يلزم من نفيها نفيها بالطريق الأولى، وقدر بعضهم في الكلام مضافا أي لا أحب عبادة الآفلين، وأيّا ما كان فمبتدأ الاشتقاق علة للحكم لأن الأفول انتقال واحتجاب وكل منهما ينافي استحقاق الربوبية والألوهية التي هي من مقتضيات الربوبية لاقتضاء ذلك الحدوث والإمكان المستحيلين على الرب المعبود القديم فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً أي مبتدأ في الطلوع منتشر الضوء، ولعله- كما قال الأزهري- مأخوذ من البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا ويقال: بزغ الناب إذا ظهر وبزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها، ويقال:

بزغ الدم أي سال، وعلى هذا فيمكن أن يكون بزوغ القمر مشبها بما ذكر وكلام الراغب صريح فيه، وظاهر الآية أن هذه الرؤية بعد غروب الكوكب.

وقوله سبحانه: قالَ هذا رَبِّي جواب لما وهو على طرز الكلام السابق فَلَمَّا أَفَلَ كما أفل الكوكب قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى جنابه الحق الذي لا محيد عنه لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فإن شيئا مما رأيته لا يصلح للربوبية، وهذا مبالغة منه عليه السلام في النصفة، وفيه- كما قال الزمخشري- تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكواكب في الأفول فهو ضال، والتعريض بضلالهم هنا- كما قال ابن المنير- أصرح وأقوى من قوله أولا لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وإنما ترقى عليه السلام إلى ذلك لأن الخصوم قد قامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال، فما عرض لهم عليه السلام بأنهم على ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم له إلى آخره. والدليل على ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتصريح بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة عليهم وتبلج الحق وبلغ من الظهور غايته.

وفي هذه الجملة دليل من غير وجه على أن استدلاله عليه السلام ليس لنفسه بل كان محاجة لقومه، وكذا ما سيأتي.

وحمل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام استعجز نفسه فاستعان بربه عز وجل في درك الحق وما سيأتي على أنه إشارة إلى حصول اليقين من الدليل خلاف الظاهر جدا، على أنه قيل: إن حصول اليقين من الدليل لا ينافي المحاجة مع القوم، ثم الظاهر- على ما قال شيخ الإسلام- إنه عليه السلام كان إذ ذاك في موضع كان في جانبه الغربي جبل شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل وكان الكوكب قريبا منه وأفقه الشرقي مكشوف أولا وإلا فطلوع القمر بعد أفول الكوكب ثم أفوله قبل طلوع الشمس كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً أي مبتدأة في الطلوع مما لا يكاد يتصور، وقال آخر: إن القمر لم يكن حين رآه في ابتداء الطلوع. بل كان

<<  <  ج: ص:  >  >>