فإنه عدل فيه إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته واستحضارها لذهن السامع إلى ما لا يحصى كثرة، وهو إنما ينتحي فيما تكون العناية فيه أقوى، ولا شك أن إخراج الحي من الميت أظهر في القدرة من عكسه وهو أيضا أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه ثم القسم الآخر ثان عنه فكان الأول جديرا بالتصوير والتأكيد في النفس ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر حسب ترتبهما في الواقع، وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه أن اسم الفاعل في معنى المضارع وكل منهما يقدر بالآخر فلا جناح في عطفه عليه.
وقال الإمام في وجه ذلك الاختلاف: إن لفظ الفعل يدل على أن الفاعل معتن بالفعل في كل حين وأوان، وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة، ويرشد إلى هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز من أن قوله سبحانه: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ [فاطر: ٣] قد ذكر فيه الرزق بلفظ الفعل لأنه يفيد أنه تعالى يرزقهم حالا فحالا وساعة فساعة، وقوله عز شأنه وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف: ١٨] قد ذكر فيه الاسم ليفيد البقاء على تلك الحالة، وإذا ثبت ذلك يقال: لما كان الحي أشرف من الميت وجب أن يكون الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي، فلذا وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل وعن الثاني بصيغة الاسم تنبيها على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي. ثم العطف لاشتمال الكلام به على زيادة لا يضر بكون الجملة بيانا لما تقدم كما لا يضر شمول الحي والميت في الجملة المعطوف عليها للحيوان والنبات فيه.
وأيّا ما كان فلا بد من القول بعموم المجاز أو الجمع بين المجاز والحقيقة على مذهب من يرى صحته إن قلنا: إن الحي حقيقة فيمن يكون موصوفا بالحياة وهي صفة توجب صحة الإدراك والقدرة والميت حقيقة فيمن فارقته تلك الصفة أو نحو ذلك. وإن إطلاقه على نحو النبات والشجر الغض والحب والنوى مجاز. وبهذا يشعر كلام الإمام فإنه جعل ما نقل عن الزجاج أن المعنى يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي من الوجوه المجازية كالمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المعنى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ذلِكُمُ القادر العظيم الشأن الساطع البرهان هو اللَّهَ الذات الواجب الوجود المستحق للعبادة وحده فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شيء لا سبيل إلى ذلك أصلا. وتمسك الصاحب ابن عباد بهذا على أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى لأنه سبحانه لو خلق فيه الإفك لم يلق به عز شأنه أن يقول: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وقد قدمنا الجواب على ذلك على أتم وجه فتذكر فالِقُ الْإِصْباحِ خبر لمبتدأ محذوف أي هو فالق أو خبر آخر لأن. والْإِصْباحِ بكسر الهمزة مصدر سمي به الصبح، قال امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وقرأ الحسن بالفتح على أنه جمع صبح كقفل وأقفال. وأنشد قوله:
أفني رياحا وبني رياح ... تناسخ الإمساء والإصباح
بالكسر والفتح مصدرين وجمعي مسى وصبح والفالق الخالق على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقتادة، والضحاك، وقال غير واحد: الشاق. واستشكل بأن الظاهر أن الظلمة هي التي تفلق عن الصبح. وأجيب بأن الصبح صبحان، صادق وهو المنتشر ضوءه معترضا بالأفق. وكاذب وهو ما يبدو مستطيلا وأعلاه أضوأ من باقيه