للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعالى عنهما- أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا والجنين يبقى زمانا طويلا، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى. ويلزم ذلك أن حمل الاستيداع على المكث في الصلب أولى. وأنا أقول: لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم يوم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم وكان ما كان ردهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء الله تعالى ذلك، وقد أطلق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اسم الوديعة على ما في الصلب صريحا. فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أتزوجت؟ قلت: لا وما ذلك في نفسي اليوم قال: إن كان في صلبك وديعة فستخرج.

وروي تفسير المستودع بالدنيا والمستقر بالقبر عن الحسن وكان يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وينشد قول لبيد:

وما المال والأهلون إلا وديعة ... ولا بد يوما أن ترد الودائع

وقال سليمان بن زيد العدوي في هذا المعنى:

فجع الأحبة بالأحبة قبلنا ... فالناس مفجوع به ومفجع

مستودع أو مستقر مدخلا ... فالمستقر يزوره المستودع

وعن أبي مسلم الأصفهاني أن المستقر الذكر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه والمستودع الأنثى لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة فكأنه قيل: وهو الذي خلقكم من نفس واحدة فمنكم ذكر ومنكم أنثى.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقر» بكسر القاف وهو حينئذ اسم فاعل بمعنى قار ومستودع اسم مفعول والمراد فمنكم مستقر ومنكم مستودع. ووجه كون الأول معلوما والثاني مجهولا أن الاستقرار هنا بخلاف الاستيداع والمتعاطفان على القراءة الأولى مصدران أو اسما مكان ولا يجوز أن يكون الأول اسم مفعول لأن استقر لا يتعدى وكذا الثاني ليكون كالأول قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ المبينة لتفاصيل خلق البشر ومن جملتها هذه الآية لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ معاني ذلك، قيل: ذكر مع ذكر النجوم يَعْلَمُونَ ومع ذكر إنشاء بني آدم يَفْقَهُونَ لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوالهم المختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له، وهو مبني على أن الفقه أبلغ من العلم، وقيل: هما بمعنى إلا أنه لما أريد فصل كل آية بفاصلة تنبيها على استقلال كل منهما بالمقصود من الحجة وكره الفصل بفاصلتين متساويتين لفظا للتكرار عدل إلى فاصلة مخالفة تحسينا للنظم وافتنانا في البلاغة.

وذكر ابن المنير وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله تعالى ولا يعتبر بمخلوقاته. وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة وتقليبهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها فإذا تمهد هذا فجهل الإنسان بنفسه وأحواله وعدم النظر والتفكر فيها أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها وتقلبها، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفي بطريق التعريض عن أبشع القبيلتين جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى فخص به أسوأ الفريقين حالا. ويَفْقَهُونَ هاهنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم، وليس من فقه بالضم لأن تلك درجة عالية ومعناه صار فقيها. ثم ذكر أنه إذا قيل:

<<  <  ج: ص:  >  >>