وروي عن قتادة أنهم أهل الكتاب مطلقا، وعن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم الكفار مطلقا، والكل عندي بعيد، ولعل مراد من قال ذلك أن الآية بظاهر مفهومها تصدق على من أرادوا لا أن
الآية نزلت فيهم، وقرأ يحيى ابن يعمر وابن إسحاق اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بالكسر لأنه الأصل في التقاء الساكنين، وأبو السماك اشْتَرَوُا بالفتح اتباعا لما قبل، وأمال حمزة والكسائي «الهدى» وهي لغة بني تميم وعدم الإمالة لغة قريش.
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على الصلة، وأتى بالفاء للإشارة إلى تعقب نفي الربح للشراء وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح، وزعم بعضهم أن الفاء دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء لمكان الموصول- فهو على حد الذي يدخل الدار فله درهم- وليس بشيء لأن الموصول هنا ليس بمبتدأ كما في المثال بل هو خبر عن أُولئِكَ وما بعد الفاء ليس بخبر بل هو معطوف على الصلة فهو صلة ولا يجوز أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ مبتدأ وفَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ خبر عن الثاني وهو وخبره خبر عن الأول لعدم الرابط في الجملة الثانية ولتحقق معنى الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها ولا أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ بدلا منه والجملة خبرا لأن الفاء إنما تدخل الخبر لعموم الموصول والمبدل من المخصوص مخصوص فالحق ما ذكرناه، ومعنى الآية عليه ليس غير كما في البحر. والتِّجارَةِ التصرف في رأس المال طلبا للربح ولا يكاد يوجد- تاء- أصلية بعدها جيم إلا نتج وتجر ورتج وارتج، وأما تجاه ونحوه فأصلها الواو، و «الربح» تحصيل الزيادة على رأس المال، وشاع في الفضل عليه، و «المهتدي» اسم فاعل من اهتدى مطاوع هدى ولا يكون افتعل المطاوع إلا من المتعدي، وأما قوله:
حتى إذا اشتال سهيل في السحر ... كشعلة القابس ترمي بالشرر
فافتعل فيه بمعنى فعل تقول: شال يشول واشتال يشتال بمعنى، وفي الآية ترشيح لما سمعت من المجاز فيما قبلها، والمقصد الأصلي تصوير خسارهم بفوت الفوائد المترتبة على الهدى التي هي كالربح وإضاعة الهدى الذي هو- كرأس المال- بصورة خسارة التاجر الفائت للربح المضيع لرأس المال حتى كأنه هو على سبيل الاستعارة التمثيلية مبالغة في تخسيرهم ووقوعهم في أشنع الخسار الذي يتحاشى عنه أولو الأبصار، وإسناد الربح إلى التجارة- وهو لأربابها- مجاز للملابسة، وكني في مقام الذمّ بنفي الربح عن الخسران لأن فوت الربح يستلزمه في الجملة ولا أقل من قدر ما يصرف من القوة، وفائدة الكناية التصريح بانتفاء مقصد التجارة مع حصول ضده بخلاف ما لو قيل خسرت تجارتهم فلا يتوهم أن نفي أحد الضدين إنما يوجب إثبات الآخر إذا لم يكن بينهما واسطة وهي موجودة هنا فإن التاجر قد لا يربح ولا يخسر، وقيل: إن ذلك إنما يكون إذا كان المحل قابلا للكل كما في التجارة الحقيقية أما إذا كان لا يقبل إلا اثنين منها فنفي أحدهما يكون إثباتا للآخر، والربح والخسران في الدين لا واسطة بينهما على أنه قد قامت القرينة هنا على الخسران لقوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ وقد جعله غير واحد كناية عن إضاعة رأس المال فإن من لم يهتد بطرق التجارة تكثر الآفات على أمواله، واختير طريق الكناية نكاية لهم بتجهيلهم وتسفيههم، ويحتمل على بعد أن يكون النفي هنا من باب قوله: على لاحب لا يهتدى بمناره، أي لا منار فيهتدى به فكأنه قال لا تجارة ولا ربح.
والظاهر أن وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على ما ربحت للقرب مع التناسب والتفرع باعتبار المعنى الكنائي، وبتقدير المتعلق لطرق الهداية يندفع توهم أن عدم الاهتداء قد فهم مما قبل فيكون تكرارا لما مضى وهو إما من باب التكميل والاحتراس كقوله: