للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«قلت» : أجاب مولانا شيخ الإسلام عن هذا السؤال بعد أن ساقه بأن مقام استنظاره مقتض لما ذكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحرمان المدلول عليه بالطرد والرجم وكذا مقام الإنظار مقتض لترتيب الأخبار بالإنظار على الاستنظار. وقد طبق الكلام عليه في تينك السورتين وفى كل من مقامي الحكاية والمحكي جميعا حظه، وأما هاهنا فحيث اقتضى مقام الحكاية مجرد الإخبار بالاستنظار والإنظار سيقت الحكاية على نهج الإيجاز والاختصار من غير تعرض لكيفية كل منهما عند المخاطبة والجواب. ولا يلزم أن لا يكون ذلك نقلا للكلام على ما هو عليه ولا مطابقا لمقتضى المقام. فالذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله وأما كيفية الإفادة فقد تراعى وقد لا تراعى حسب الاقتضاء. ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعى عند نقله كيفيات لم يراعها المتكلم أصلا بل قد لا يقدر على مراعاتها. وجميع المقالات المحكية في الآيات من ذلك القبيل وإلا لما كان الكثير منها معجزا، وملاك الأمر في المطابقة مقام الحكاية وأما مقام المحكي فإن كان مقتضاه موافقا لذلك وفي كل منهما حقه كما في السورتين وإلا لا كما فيما هنا فليفهم.

قالَ استئناف كنظائره فَبِما أَغْوَيْتَنِي الفاء لترتيب مضمون الجملة التي بعد على الأنظار. والباء أما للقسم أو للسببية. وما على التقديرين مصدرية، والجار والمجرور متعلق بأقسم وقيل: إنه على تقدير السببية متعلق بما بعد اللام، وفيه أن لها الصدد على الصحيح فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وجوز بعضهم كون ما استفهامية لم يحذف ألفها وأن الجار متعلق بأغويتني ولا يخفى ضعفه. والإغواء خلق الغي. وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل وغوى إذا بشم وفسدت معدته، وجاء بمعنى الجهل من اعتقاد فاسد كما في قوله سبحانه: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النجم: ٢] وبمعنى الخيبة كما في قوله:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

ومنه قوله تعالى: «وعصى آدم ربه فغوى» واستعمل بمعنى العذاب مجازا بعلاقة السببية. ومنه قوله تعالى:

فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ولا مانع عند أهل السنة أن يراد بالإغواء هنا خلق الغي بمعنى الضلال أي بما أضللتني وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ونسبة الإغواء بهذا المعنى إلى الله عز وجل مما يقتضيه عموم قوله سبحانه: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: ١٠٢، الرعد: ١٦، الزمر: ٦٢] والمعتزلة يأبون نسبة مثل ذلك إليه سبحانه وقالوا في هذا تارة: إنه قول الشيطان فليس بحجة، وأولوه أخرى بأن الإغواء النسبة إلى الغي كأكفره إذا نسبه إلى الكفر أو إنه بمعنى إحداث سبب الغي وإيقاعه وهو الآمر بالسجود.

وقال بعضهم: إن الغي هنا بمعنى الخيبة أي بما خيبته من رحمتك أو الهلاك أي بما أهلكته بلعنك إياه وطردك له، والذي دعاهم إلى هذا كله عدم قولهم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه سبحانه لا خالق غيره ولم يكفهم ذلك حتى طعنوا بأهل السنة القائلين بذلك. وما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفايا الشرك بما لم يسبق إبليس عليه اللعنة نعوذ بالله سبحانه وتعالى من التعرض لسخطه. نعم الإغواء بمعنى الترغيب بما فيه الغواية والأمر به كما هو مراد اللعين من قوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ مما لا يجوز من الله تعالى شأنه كما لا يخفى، ثم إن كانت الباء للقسم يكون المقسم به صفة من صفات الأفعال وهو مما يقسم به في العرف وإن لم تجر الفقهاء به أحكام اليمين.

ولعل القسم وقع من اللعين بهما جميعا فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر، وإن كانت سببية فالقسم بالعزة أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أي لآدم عليه السلام وذريته ترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ الموصل إلى الجنة وهو الحق الذي فيه رضاك.

<<  <  ج: ص:  >  >>