يمين الإنسان وإليها الإشارة بقوله: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ. والقوة الغضبية ومحلها القلب الذي هو في الشق الأيسر وإليها الإشارة بقوله: وَعَنْ شَمائِلِهِمْ والشيطان ما لم يستعن بشيء من هذه القوى لا يقدر على إلقاء الوسوسة، وهذا عندي نوع من الإشارة كما لا يخفى، وقيل: غير ذلك، وإنما عدي الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم، ونظيره قولهم: جلست عن يمينه، وذكر القطب في بيان وجه ذلك ما بناه على ما قاله بعض حكماء الإسلام وهو أن من للاتصال وعن الانفصال، وأثر الشيطان في قوتي الدماغ حصول العقائد الباطلة كالشرك والتشبيه والتعطيل، وهي مرتسمة في النفس الإنسانية متصلة بها، وفي الشهوة والغضب حصول الأعمال السيئة الشهوانية والغضبية وهي تنفصل عن النفس وتنعدم فلهذا أورد في الجهتين الأوليين مِنْ الاتصالية وفي الآخرين عَنْ الانفصالية، وقيل: خص اليمين والشمال بعن لأن ثمة ملكين يقتضيان التجاوز عن ذلك وفيه نظر لا يخفى، وادعى بعضهم أن الآية كالدليل على أن اللعين لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه إذ لو أمكنه ذلك لذكره في باب المبالغة
وحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»
من باب التمثيل. وقد يجاب بأن التمثيل اقتضى عدم الذكر فتدبر وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ أي مطيعين، وإنما قال ذلك ظنا كما روي عن الحسن. وأبي مسلم لقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: ٢٠] لما رأى أن للنفس تسع عشرة قوة الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب. والقوى السبع النباتية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وأنها بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وأن ليس هناك ما يدعو إلى عالم الأرواح إلا قوة واحدة وهي العقل وما يصنع واحد مع متعدد:
أرى ألف بان لا يقوم بهادم ... فكيف يبان خلفه ألف هادم
وعن الجبائي أنه سمع ذلك من الملائكة فقاله على سبيل القطع، وقيل: إنه رآه قبل في اللوح المحفوظ.
ووجد إما بمعنى صادف فينصب مفعولا واحدا وهو أَكْثَرَهُمْ وشاكرين حال، وإما بمعنى علم فينصب مفعولين ثانيهما شاكِرِينَ والجملة إما معطوفة على المقسم عليه وإما مستأنفة، وإنما لم يفرعها على ما تقدم لأن مضمونها بمقتضى الجبلة أيضا لا بمجرد إغوائه، ووجه التعبير بالأكثر ظاهر قالَ استئناف كما مر غير مرة:
اخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من زمرة الملائكة أو من السماء الخلاف السابق مَذْؤُماً أي مذموما كما روي عن ابن زيد أو مهانا لعينا كما روي عن ابن عباس وقتادة، وفعله ذأم. وقرأ الزهري «مذوما» بذال مضمومة وواو ساكنة وفيه احتمالان الأول أن يكون مخففا من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها، والثاني أن يكون من ذام بالألف كباع وكان قياسه على هذا مذيم كمبيع إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حد قولهم. مكول في مكيل مع أنه من الكيل، ونصبه على الحال وكذا قوله تعالى: مَدْحُوراً وهو من الدحر بمعنى الطرد والإبعاد، وجوز في هذا أن يكون صفة، واللام في قوله سبحانه: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ على ما في الدر المصون موطئة للقسم ومن شرطية في محل رفع مبتدأ. وقوله عز اسمه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ جواب القسم وهو سادّ مسد جواب الشرط، والخلاف في خبر المبتدأ في مثل ذلك مشهور، وجوز أن تكون اللام لام الابتداء ومن موصولة مبتدأ صلتها تَبِعَكَ والجملة القسمية خبر. وقرأ عصمة عن عاصم «لمن» بكسر اللام فقيل: إنها متعلقة بلأملأن. ورد بأن لام القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وقيل: إنها متعلقة بالذأم والدحر على التنازع وأعمال الثاني أي أخرج بهاتين الصفتين لأجل اتباعك، وقيل: إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يقدر مؤخرا أي لمن اتبعك هذا الوعيد. ودل عليه قوله سبحانه: لَأَمْلَأَنَّ إلخ، ولعل ذلك مراد الزمخشري بقوله: أن لَأَمْلَأَنَّ في محل المبتدأ ولَمَنْ تَبِعَكَ