للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورجح الوجه الأول بأن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار. وبأنه يلزم على الثاني أن يكون الليل مفعولا ثانيا والنهار مفعولا أولا. وقد ذكر أبو حيان أن المفعولين إذا تعدى إليهما فعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى يلزم أن يكون هو الأول منهما عندهم كما لزم ذلك في ملكت زيدا عمرا، ورتبة التقديم هي الموضحة لأنه الفاعل معنى كما لزم في ضرب موسى عيسى بخلاف أعطيت زيدا درهما فإن تعين المفعول الأول لا يتوقف على التقديم. ورجح الثاني بأن حميد بن قيس قرأ «يغشى الليل النهار» بفتح الياء ونصب «الليل» ورفع «النهار» ، ويلزم عليها أن يكون الطالب النهار والليل ملحق به. وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما.

وبأن قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧] يعلم منه- على ما قال المرزوقي- أن الليل قبل النهار لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ فالنهار بالإدراك أولي، وبأن قوله سبحانه: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي محمولا على السرعة ففعيل بمعنى مفعول أوفق بهذا الوجه فإن هذا الطلب من النهار أظهر، وقد قالوا: إن ضوء النهار هو الهاجم على ظلمة الليل. وأنشد بعضهم:

كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابا ذا قوادم جون

ولبعض المتأخرين من أبيات:

وكأن الشرق باب للدجى ... ماله خوف هجوم الصبح فتح

وحديث أن التغشية أنسب بالليل قيل. مسلم لو كان المراد بالتغشية حقيقتها لكن ليس المراد ذلك بل المراد اللحوق والإدراك وهذا أنسب بالنهار كما علمت. والقاعدة المذكورة لا تخلو عن كلام. على أنه لا يبعد على ما نقرر أن يكون الكلام من قبيل أعطيت زيدا درهما. والقول بأن معنى الآية أنه سبحانه يجعل الليل أغشى بالنهار أي مبيضا بنور الفجر بناء على ما في الصحاح من أن الأغشى من الخيل وغيره ما ابيض رأسه كله من بين جسده كالأرخم مما لا يكاد يقدم عليه، وذكر سبحانه أحد الأمرين ولم يذكرهما معا كما في قوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج: ٦١، لقمان: ٢٩، فاطر: ١٣، الحديد: ٦] للعلم بالآخر من المذكور لأنه يشير إليه أو لأن اللفظ يحتمله- على ما قيل، وقال بعض المحققين: إن الليل والنهار بمعنى كل ليل ونهار وهو بتعاقب الأمثال مستمر الاستبدال فيدل على تغيير كل منهما بالآخر بأخصر عبارة من غير تكلف ومخالفة لما اشتهر من قواعد العربية.

وجملة يُغْشِي- على ما قاله ابن جني- على قراءة حميد حال من الضمير في قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى والعائد محذوف أي يغشى الليل النهار بأمره أو بإذنه، وقوله جل وعلا: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً بدل من يُغْشِي إلخ للتوكيد. وعلى قراءة الجماعة حال من اللَّيْلَ أي يغشى الليل النهار طالبا له حثيثا، وحَثِيثاً حال من الضمير في يَطْلُبُهُ وجوز غيره أن تكون الجملة حالا من النَّهارَ على تقدير قراءة حميد أيضا.

وجوز أبو البقاء الاستئناف في الجملة الأولى. وقال بعضهم: يجوز في حَثِيثاً أن يكون حالا من الفاعل بمعنى حاثا أو من المفعول أي محثوثا، وأن يكون صفة مصدر محذوف أي طلبا حثيثا، وإنما وصف الطلب بذلك لأن تعاقب الليل والنهار- على ما قال الإمام وغيره- إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وهي أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوة بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ. واعترض بأن الفلك الأعظم إن كان هو العرش كما قالوا فحركته غير مسلمة عند جمهور المحدثين بل هم لا يسلمون حركة شيء من سائر الأفلاك أيضا وهو الكرسي والسماوات السبع بل ادعوا أن النجوم بأيدي ملائكة تسير بها حيث شاء الله تعالى

<<  <  ج: ص:  >  >>