للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُسَخَّراتٍ مفعولا ثانيا أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ كالتذييل للكلام السابق أي إنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ويدخل في ذلك السماوات والأرض دخولا أوليا وهو الذي دبرها وصرفها على حسب إرادته ويدخل في ذلك ما أشير إليه بقوله سبحانه: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ لا أحد غيره كما يؤذن به تقديم الظرف.

وفسر بعضهم الأمر هنا بالإرادة أيضا، وفسر آخرون الأمر بما هو مقابل النهي والخلق بالمخلوق أي له تعالى المخلوقون لأنه خلقهم وله أن يأمرهم بما أراد واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أن كلام الله تعالى شأنه ليس بمخلوق فقال: إن الله تعالى فرّق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني من جعل الأمر الذي هو كلامه سبحانه من جملة من خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق مثله كذا في تفسير الخازن وليس بشيء كما لا يخفى.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن الخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك، وشاع عند بعضهم إطلاق عالم الأمر على عالم المجردات تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.

ففي ذلك إشارة إلى أنهما طبق الحكمة وفي غاية الكمال ولا يقال ذلك في غيره تعالى بل هو صفة خاصة به سبحانه في القاموس. وقال الإمام: إن البركة لها تفسيران: أحدهما البقاء والثبات، والثاني كثرة الآثار الفاضلة. فإن حملته على الأول فالثابت الدائم هو الله تعالى، وإن حملته على الثاني فكل الخيرات والكمالات من الله تعالى فهذا الثناء لا يليق إلا بحضرته جل وعلا. واختار الزجاج أنه من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ولم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل مثلا، وقال البيضاوي: المعنى تعالى بالوحدانية والألوهية وتعظم بالتفرد بالربوبية، وعلى هذا فهو ختام لوحظ فيه مطلعه ثم حقق الآية بما لا يخلو عن دغدغة ومخالفة لما عليه سلف الأمة. ثم إنه تعالى بعد أن بين التوحيد وأخبر أنه المتفرد بالخلق والأمر أمر عباده أن يدعوه مخلصين متذللين فقال عز من قائل: ادْعُوا رَبَّكُمْ الذي عرفتم شؤونه الجليلة والمراد من الدعاء- كما قال غير واحد- السؤال والطلب وهو مخ العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى غير ذلك المطلوب وأنه عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها إليه. ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص ومعرفته ربه بالقدرة والكمال من أعظم العبادات.

وقيل: المراد منه هنا العبادة لأنه عطف عليه ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً والمعطوف يجب أن يكون مغاير للمعطوف عليه وفيه نظر. أما أولا فلأن المغايرة تكفي باعتبار المتعلقات كما تقول ضربت زيدا وضربت عمرا.

وأما ثانيا فلأنها لا تستدعي حمل الدعاء هنا على العبادة بل حمله على ذلك إما هناك أو هنا وأما ثالثا فلأنه خلاف التفسير المأثور كما ستعلمه إن شاء الله تعالى تَضَرُّعاً أي ذوي تضرع أو متضرعين فنصبه على الحال من الفاعل بتقدير أو تأويل، وجوز نصبه على المصدرية. وكذا الكلام فيما بعد وهو من الضراعة وهي الذل والاستكانة يقال ضرع فلان لفلان إذا ذل له واستكان، وقال الزجاج: التضرع التملق وهو قريب مما قالوا أي ادعوه تذللا، وقيل:

التضرع مقابل الخفية. واختاره أبو مسلم أي ادعوه علانية وَخُفْيَةً أي سرا.

أخرج ابن المبارك، وابن جرير، وأبو الشيخ عن الحسن قال: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وأنه سبحانه ذكر عبدا صالحا فرضي له فعله فقال تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: ٣] وفي رواية عنه أنه قال:

بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا.

وجاء من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لقوم يجهرون: «أيها

<<  <  ج: ص:  >  >>