واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك فكأن أحدا دفعهم وألقاهم أو أن الله تعالى ألهمهم ذلك وحملهم عليه فالملقي هو الله تعالى بإلهامه لهم حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى عليه السلام وينقلب الأمر عليه، ويحتمل أن يكون الكلام جاريا مجرى التمثيل مبالغة في سرعة خرورهم وشدته وإليه يشير كلام الأخفش، وجوز أن يكون التعبير بذلك مشاكلة لما معه من الإلقاء إلا أنه دون ما تقدم، يروى أن اجتماع القوم كان بالاسكندرية وأنه بلغ ذنب الحية من وراء البحر وأنها فتحت فاها ثمانين ذراعا فابتلعت ما صنعوا واحدا بعد واحد وقصدت الناس ففزعوا ووقع الزحام فمات منهم لذلك خمسة وعشرون ألفا ثم أخذها موسى عليه السلام فعادت في يده عصا كما كانت وأعدم الله تعالى بقدرته تلك الأجرام العظام، ويحتمل أنه سبحانه فرقها أجزاء لطيفة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس من السحر في شيء فعند ذلك خروا سجدا، والمتبادر من السجود حقيقته ولا يبعد أنهم كانوا عالمين بكيفيته، وقيل: إن موسى وهارون عليهما السلام سجدا شكرا الله تعالى على ظهور الحق فاقتدوا بهما وسجدوا معهما، وحمل السجود على الخضوع أي أنهم خضعوا لما رأوا ما رأوا خلاف الظاهر الذي نطقت به الآثار من غير داع إلى ارتكابه قالُوا استئناف.
وجوز أبو البقاء كونه حالا من ضمير انقلبوا وليس بشيء، وقيل: هو حال من السحرة أو من ضميرهم المستتر في ساجدين أي أنهم ألقوا ساجدين حال كونهم قائلين آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي مالك أمرهم والمتصرف فيهم رَبِّ مُوسى وَهارُونَ بدل مما قبل وإنما أبدلوا لئلا يتوهم أنهم أرادوا فرعون ولم يقتصروا على موسى عليه السلام إذ ربما يبقى للتوهم رائحة لأنه كان ربّى موسى عليه السلام في صغره، ولذا قدم هارون في محل آخر لأنه أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سنا منه، وقدم موسى هنا لشرفه أو للفاصلة، وأما كون الفواصل في كلام الله تعالى لا في كلامهم فقد قيل: إنه لا يضر، وروي أنهم لما قالوا: آمنا برب العالمين قال فرعون: أنا رب العالمين فقالوا ردا عليه: رب موسى وهارون، وإضافة الرب إليهما كإضافته إلى العالمين، وقيل: إن تلك الإضافة على معنى الاعتقاد أي الرب الذي يعتقد ربوبيته موسى وهارون ويكون عدم صدقه على فرعون بزعمه أيضا ظاهرا جدا إلا أن ذلك خلاف الظاهر من الإضافة، ويعلم مما قدمنا سر تقديم السجود على هذا القول.
وقال الخازن في ذلك: إن الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان خروا سجدا لله تعالى على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان ثم أظهروا بذلك إيمانهم، وقيل: إنهم بادروا إلى السجود تعظيما لشأنه تعالى لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان، ومن جعل الجملة حالا قال بالمقارنة فافهم، وأول من بادر بالإيمان كما روي عن ابن إسحاق الرؤساء الأربعة الذين ذكرهم ابن الجوزي ثم اتبعتهم السحرة جميعا قالَ فِرْعَوْنُ منكرا على السحرة موبخا لهم على ما فعلوه آمَنْتُمْ بِهِ أي برب موسى وهارون أو بالله تعالى لدلالة ذلك عليه أو بموسى عليه السلام قيل لقوله تعالى في آية أخرى: آمَنْتُمْ لَهُ [الشعراء: ٤٩] فإن الضمير فيها له عليه السلام لقوله سبحانه: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ
[الشعراء: ٤٩] إلخ، والمقصود من الجملة الخبرية التوبيخ لأن الخبر إذا لم يقصد به فائدته ولا لازمها تولد منه بحسب المقام ما يناسبه، وهنا لما خاطبهم الجبار بما فعلوا مخبرا لهم بذلك مع ظهور عدم قصد إفادة أحد الأمرين والمقام هو المقام أفاد التوبيخ والتقريع، ويجوز أن تقدر فيه الهمزة بناء على اطراد ذلك والاستفهام للإنكار بمعنى أنه لا ينبغي ذلك، ويؤيد ذلك قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم: وروح عن يعقوب «أآمنتم» بهمزتين محققتين وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين مما قرىء به أيضا.
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي قبل أن آمركم أنا بذلك وهو على حد قوله تعالى: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ