السؤال والثاني التكذيب، وقيل: الأول الاشتغال بدعوة من سبقت له السعادة، والثاني النصب الحاصل من دعوة من حقت عليه كلمة العذاب.
وقيل: ونسب إلى مجاهد وابن جريج المراد من الغيب الموت، ومن الخير الإكثار من الأعمال الصالحة، ومن السوء ما لم يكن كذلك، وقيل: غير ذلك، والكل كما ترى ومنها ما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، وقدم ذكر الخير على ذكر السوء لمناسبة ما قبل حيث قدم فيه ذكر النفع على ذكر الضر وسلك في ذكرهما هناك كذلك مسلك الترقي على ما قيل: فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع، وذكر النيسابوري أن أكثر ما جاء في القرآن إذ يؤتى بالضر والنفع معا تقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد إنما يعبد معبوده خوفا من عقابه أولا ثم يعبده طمعا في ثوابه ثانيا كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة: ١٦] وحيث تقدم النفع على الضر كان ذلك لسبق لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة حيث تقدم آنفا لفظ الهداية على الضلال في قوله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ إلخ وفي الرعد تقدم ذكر الطوع في قوله سبحانه: طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران: ٨٣، الرعد: ١٥] وهو نفع، وفي الفرقان تقدم العذب في قوله جل وعلا: هذا عَذْبٌ فُراتٌ [الفرقان:
٥٣، فاطر: ١٢] وهو نفع، وفي سبأ تقدم البسط في قوله تبارك اسمه: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد:
٢٦] وليقس على هذا غيره، وابن جريج يفسر النفع هنا بالهدى والضر بالضلال، وبه تقوى نكتة التقديم التي اعتبرها هذا الفاضل فيما نحن فيه كما لا يخفى.
واستشكلت هذه الآية مع ما صح أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر بالمغيبات الجمة وكان الأمر كما أخبر، وعد ذلك من أعظم معجزاته عليه الصلاة والسلام، واختلف في الجواب فقيل: المفهوم من الآية نفي علمه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك بالغيب المفيد لجلب المنافع ودفع المضار التي لا علاقة بينها وبين الأحكام والشرائع وما يعلمه صلّى الله عليه وسلّم من الغيوب ليس من ذلك النوع وعدم العلم مما لا يطعن في منصبه الجليل عليه الصلاة والسلام.
وقد أخرج مسلم عن أنس وعائشة رضي الله تعالى عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بقوم يلقحون فقال: عليه الصلاة والسلام «لو لم تفعلوا لصلح فلم يفعلوا فخرج شيصا فمر بهم صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما لقحتم؟ قالوا: قلت كذا وكذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم»
وفي رواية أخرى له أنه عليه الصلاة والسلام قال حين ذكر له أنه صار شيصا: «إن كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان من أمر دينكم فإلي»
وقد عد عدم علمه صلّى الله عليه وسلّم بأمر الدنيا كمالا في منصبه إذ الدنيا بأسرها لا شيء عند ربه.
وقيل: المراد نفي استمرار علمه عليه الصلاة والسلام الغيب، ومجيء كان للاستمرار شائع، ويلاحظ الاستمرار أيضا في الاستكثار وعدم المس. وقيل: المراد بالغيب وقت قيام الساعة لأن السؤال عنه وهو عليه الصلاة والسلام لم يعلمه ولم يخبر به أصلا، وحينئذ يفسر الخير والسوء بما يلائم ذلك كتعليم السائلين وعدم الطعن في أمر الرسالة من الكافرين، وقيل: أل في الغيب للاستغراق وهو صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم كل غيب فإن من الغيب ما تفرد الله تعالى به كمعرفة كنه ذاته تبارك وتعالى وكمعرفة وقت قيام الساعة على ما تدل عليه الآية.
وفي لباب التأويل للخازن في الجواب عن ذلك أنه يحتمل أن يكون هذا القول منه عليه الصلاة والسلام على سبيل التواضع والأدب، والمعنى لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله تعالى عليه ويقدره لي، ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله تعالى على الغيب فلما اطلعه أخبر به، أو يكون خرج هذا الكلام فخرج الجواب عن سؤالهم ثم بعد ذلك أظهره الله تعالى على أشياء من المغيبات ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته صلّى الله عليه وسلّم انتهى، وفيه تأمل وكلام بعض المحققين يشير إلى ترجيح الأول.