مخبرة بأن إصابة الفتنة لا تخص بالظالمين بل تعم غيرهم أيضا، فلو بين الذين ظلموا بالمخاطبين لأفهمت أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم كلهم ظالمون وحاشاهم، ثم لا يخفى أن الخطاب إذا كان عاملا للأمة وفسرت الفتنة بإقرار المنكر لا يجيء الإشكال على عموم الإصابة بقوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤، الإسراء: ١٥، فاطر: ١٨، الزمر: ٧] لأنه كما يجب على مرتكب الذنب الانتهاء عنه يجب على الباقين رفعه وإذ لم يفعلوا كانوا آثمين فيصيبهم ما يصيبهم لإثمهم.
وبدل للوجوب ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله تعالى بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم،
وأخرج الترمذي. وأبو داود عن قيس بن حازم عن أبي بكر رضي الله عنه قال:«سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب»
وروى الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
ومن ذهب إلى أن الخطاب خاص فسر الفتنة بافتراق الكلمة، وجعل ذلك إشارة إلى ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل.
وممن ذهب إلى أنهم المعنيون السدي وغيره، وأخرج غير واحد عن الزبير قال: قرأنا هذه الآية زمانا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وقد أخرج نهيهم عن ذلك على أبلغ وجه وأقيم الظالمون مقام ضميرهم تنبيها على أن تعرض الفتنة وهي افتراق الكلمة من أشد الظلم لا سيما من هؤلاء الأجلاء، ثم فسر بضميرهم دلالة على الاختصاص وأكد بخاصة وكثيرا ما يشدد الأمر على الخاصة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالف أمره وكذا من أقر من انتهك محارمه وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ أي في العدد، والجملة الاسمية للايذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها، وقوله سبحانه: مُسْتَضْعَفُونَ خبر ثان، وجوز أن يكون صفة لقليل، وقوله تعالى: فِي الْأَرْضِ أي في أرض مكة تحت أيدي كفار قريش والخطاب للمهاجرين، أو تحت أيدي فارس والروم والخطاب للعرب كافة مسلمهم وكافرهم على ما نقل عن وهب. واعترض بأنه بعيد لا يناسب المقام مع أن فارس لم تحكم على جميع العرب، وقوله تعالى: تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ خبر ثالث أو صفة ثانية لقليل وصف بالجملة بعد ما وصف بغيرها، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من المستكن في مستضعفون والمراد بالناس على الأول وهو الأظهر أما كفار قريش أو كفار العرب كما قاله عكرمة لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم، وعلى الثاني فارس والروم.
وأخرج الديلمي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال: أهل فارس،
والتخطف كالخطف الأخذ بسرعة، وفسر هنا بالاستلاب أي واذكروا حالكم وقت قلتكم وذلتكم وهوانكم على الناس وخوفكم من اختطافكم، أو اذكروا ذلك الوقت فَآواكُمْ أي إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة يوم بدر أو بأن قوى شوكتكم إذ بعث منكم من تضطرب قلوب أعدائكم من اسمه وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم ولم تطب إلا لهذه الأمة، وقيل: هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة، والأول أنسب بالمقام والامتنان به هنا أظهر. والثاني متعين عند من يجعل الخطاب للعرب لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم الجليلة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ أصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء الإتمام، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه فإن الخائن ينقص المخون شيئا مما خانه فيه، اعتبر الراغب في الخيانة أن تكون سرا، والمراد بها هنا عدم العمل بما أمر الله تعالى به ورسوله عليه الصلاة