للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهي الفصحى، والآية قيل مخصوصة بأهل الكتاب فانها كما قال مجاهد والسدي نزلت في بني قريظة وهي متصلة بقصتهم بناء على أنهم المعنيون بقوله تعالى: الَّذِينَ عاهَدْتَ إلخ، والضمير في وَأَعِدُّوا لَهُمْ بهم، وقيل هي عامة للكفار لكنها منسوخة بآية السيف لأن مشركي العرب ليس لهم إلا الإسلام أو السيف بخلاف غيرهم فانه تقبل منهم الجزية، وروي القول بالنسخ عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وصحح أن الأمر فيمن تقبل منهم الجزية على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا أو يجابوا إلى الهدنة أبدا، وادعى بعضهم أنه لا يجوز للإمام أن يهادن أكثر من عشر سنين اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه صالح أهل مكة هذه المدة ثم إنهم نقضوا قبل انقضائها كما مر فذكر، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض أمرك إليه سبحانه ولا تخف أن يظهروا لك السلم وجوانحهم مطوية على المكر والكيد إِنَّهُ جل شأنه هُوَ السَّمِيعُ فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع الْعَلِيمُ فيعلم نياتهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ بإظهار السلم فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي محسبك الله وكافيك وناصرك عليهم فلا تبال بهم، فحسب صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل والكاف في محل جر كما نص عليه غير واحد وأنشدوا لجرير:

إني وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا

وقال الزجاج: إنه اسم فعل بمعنى كفاك والكاف في محل نصب، وخطأه فيه أبو حيان لدخول العوامل عليه وإعرابه في نحو بحسبك درهم ولا يكون اسم فعل هكذا هُوَ عزّ وجلّ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ استئناف مسوق لتعليل كفايته تعالى إياه صلّى الله عليه وسلّم فإن تأييده عليه الصلاة والسلام فيما سلف على الوجه الذي سلف من دلائل تأييده صلّى الله عليه وسلّم فيما سيأتي، أي هو الذي أيدك بإمداده من عنده بلا واسطة، أو بالملائكة مع خرقه للعادات وَبِالْمُؤْمِنِينَ من المهاجرين والأنصار على ما هو المتبادر.

وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه والنعمان بن بشير وابن عباس والسدي أنهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مع ما جبلوا عليه كسائر العرب من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة.

وقيل: إن الأنصار وهم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب ما أهلك ساداتهم ودق جماجمهم ولم يكن لبغضائهم أمد وبينهم التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس فأنساهم الله تعالى ما كان بينهم فاتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصارا وعادوا أعوانا وما ذاك إلا بلطيف صنعه تعالى وبليغ قدرته جل وعلا. واعترض هذا القول بأنه ليس في السياق قرينة عليه. وأجيب بأن كون المؤمنين مؤيدا بهم يشعر بكونهم أنصارا ولا يخفى ضعفه ولا تجد له أنصارا، وبالجملة ما وقع من التأليف من أبهر معجزاته عليه الصلاة والسلام لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي لتأليف ما بينهم ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لتناهي عداوتهم وقوة أسبابها، والجملة استئناف مقرر لما قبله ومبين لعزة المطلب وصعوبة المأخذ، والخطاب لكل واقف عليه لأنه لا مبالغة في انتفاء ذلك من منفق معين، وذكر القلوب للاشعار بأن التأليف بينها لا يتسنى وإن أمكن التأليف ظاهرا وَلكِنَّ اللَّهَ جلت قدرته أَلَّفَ بَيْنَهُمْ قلبا وقالبا بقدرته البالغة إِنَّهُ عَزِيزٌ كامل القدرة والغلبة لا يستعصي عليه سبحانه شيء مما يريد حَكِيمٌ يعلم ما يليق تعلق الإرادة به فيوجده بمقتضى حكمته عزّ وجلّ، ومن آثار عزته سبحانه تصرفه بالقلوب الأبية المملوءة من الحمية الجاهلية، ومن آثار حكمته تدبير أمورهم على وجه أحدث فيهم التواد والتحاب فاجتمعت كلمتهم، وصاروا جميعا كنانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذابين عنه بقوس واحدة، والجملة على ما قال الطيبي كالتعليل للتأليف هذا «ومن باب الإشارة

<<  <  ج: ص:  >  >>