عن أبي عطية الهمذاني قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور، وهي مائة وتسع وعشرون عند الكوفيين ومائة وثلاثون عند الباقين.
ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما علمت وفي هذه قيمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء الله تعالى، وفي الأولى أيضا ذكر العهود وهنا نبذها وأنه تعالى أمر في الأولى بالاعداد فقال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: ٦٠] ونعى هنا على المنافقين عدم الاعداد بقوله عز وجل: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة: ٤٦] وأنه سبحانه ختم الأولى بإيجاب أن يوالي المؤمنين بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية وصرح جل شأنه في هذه بهذا المعنى بقوله تبارك وتعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: ١] إلخ إلى غير ذلك من وجوه المناسبة.
وعن قتادة، وغيره أنها مع الأنفال سورة واحدة ولهذا لم تكتب بينهما البسملة، وقيل: وفي وجه عدم كتابتها أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في كونها سورة أو بعض سورة ففصلوا بينها وبين الأنفال رعاية لمن يقول هما سورتان ولم يكتبوا البسملة رعاية لمن يقول هما سورة واحدة، والحق أنهما سورتان إلا أنهم لم يكتبوا البسملة بينهما لما
رواه أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن علي كرم الله تعالى وجهه من أن البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف،
ومثله عن محمد بن الحنفية. وسفيان بن عيينة، ومرجع ذلك إلى أنها لم تنزل في هذه السورة كأخواتها لما ذكر، ويؤيد القول بالاستقلال تسميتها بما مر.
واختار الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أنهما سورة واحدة وأن الترك لذلك قال في الباب الحادي والثلاثمائة بعد كلام: وأما سورة التوبة فاختلف الناس فيها هل هي سورة مستقلة كسائر السور أو هل هي وسورة الأنفال سورة واحدة فإنه لا يعرف كمال السورة إلا بالفصل بالبسملة ولم تجىء هنا فدل على أنها من سورة الأنفال وهو الأوجه وإن كان لتركها وجه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ولكن ما له تلك القوة بل هو وجه ضعيف.
وسبب ضعفه أنه في الاسم الله من البسملة ما يطلبه والبراءة إنما هي من الشريك لا من المشرك فإن الخالق كيف يتبرأ من المخلوق ولو تبرأ منه من كان يحفظ وجوده عليه والشريك معدوم فتصح البراءة منه في صفة تنزيه، وتنزيه الله تعالى من الشريك والرسول صلّى الله عليه وسلّم من اعتقاد الجهل، ووجه آخر من ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو أن البسملة موجودة في أول سورة وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ [الهمزة: ١] ووَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: ١] وأين الرحمة من الويل انتهى، وقد يقال: كون البراءة من الشريك غير ظاهر من آيتها أصلا وستعلم إن شاء الله تعالى المراد منها، وما ذكره قدس سره في الوجه الآخر من الضعف قد يجاب عنه بأن هذه السورة لا تشبهها سورة فإنها ما تركت أحدا كما قال حذيفة إلا نالت منه وهضمته وبالغت في شأنه، أما المنافقون والكافرون فظاهر، وأما المؤمنون ففي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ إلى الْفاسِقِينَ [التوبة: ٢٣- ٢٤] وهو من أشد ما يخاطب به المخالف فكيف بالموافق، وليس في سورة- ويل- ولا في تبت- ولا ولا، ولو سلّم اشتمال سورة على نوع ما اشتملت عليه لكن الامتياز بالكمية والكيفية مما لا سبيل لإنكاره ولذلك تركت فيها البسملة على ما أقول، والاسم الجليل وإن تضمن القهر الذي يناسب ما تضمنته السورة لكنه متضمن غير ذلك أيضا مع اقترانه صريحا بما لم يتضمنا سوى الرحمة، وليس المقصود إلا إظهار صفة القهر ولا يتأتى ذلك مع الافتتاح بالبسملة، ولو سلّم خلوص الاسم الجليل له. نعم إنه سبحانه لم يترك عادته في افتتاح السور هنا بالكلية حيث افتتح هذه السورة بالباء كما، افتتح غيرها بها في ضمن البسملة وإن كانت باء البسملة كلمة وباء هذه السورة جزء كلمة وذلك لسر دقيق يعرفه أهله، هذا ونقل