وإبراز اهتدائهم لذلك مع ما بهم من تلك الصفات الجليلة في معرض التوقع لحسم أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الاهتداء لأن هؤلاء المؤمنين وهم- هم- إذا كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى فما بال الكفرة بيت المخازي والقبائح، وفيه قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم وما هم عليه وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، وهذا هو المناسب للمقام لا الاطماع وسلوك سنن الملوك مع كون القصد إلى الوجوب، وكون الكفرة يزعمون أنهم محقون وأن غيرهم على الباطل فلا يتأتى حسم أطماعهم لا يلتفت إليه بعد ظهور الحق وهذا لا ريب فيه.
وقيل: إن الأوصاف المذكورة، وإن أوجبت الاهتداء، ولكن الثبات عليها مما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد يطرأ ما يوجب ضد ذلك والعبرة للعاقبة، فكلمة التوقع يجوز أن تكون لهذا ولا يخفى ما فيه فإن النظر إلى العاقبة هنا لا يناسب المقام الذي يقتضي تفضيل المؤمنين عليهم في الحال.
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ السقاية والعمارة مصدرا سقي وعمر بالتخفيف إذ عمر المشدد يقال في عمر الإنسان لا في العمارة كما يتوهمه العوام، وصحت الياء في سقاية لأن بعدها هاء التأنيث، وظاهر الآية تشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات وأنه لا يحسن هنا فلا بد من التقدير، إما في جانب الصفة أي أجعلتم أهل السقاية والعمارة كمن آمن، ويؤيده قراءة محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنه وابن الزبير وأبي جعفر وأبي وجزة السعدي وهو من القراء وإن اشتهر بالشعر «أجعلتم سقاة الحاج» بضم السين جمع ساق «وعمرة المسجد» بفتحتين جمع عامر، وكذا قراءة الضحاك «سقاية» بالضم أيضا مع الياء والتاء «وعمرة» في القراءة السابقة، ووجه سقاية فيها أن يكون جمعا جاء على فعال ثم أنث كما أنث من الجموع نحو حجارة فإن في كلا القراءتين تشبيه ذات بذات، وإما في جانب الذات أي أجعلتموهما كإيمان من آمن وجهاد من جاهد، وقيل: لا حاجة إلى التقدير في شيء وإنما المصدر بمعنى اسم الفاعل، والمعنى عليه كما في الأول، وأيّا ما كان فالخطاب إما للمشركين على طريقة الالتفات واختاره أكثر المحققين وهو المتبادر من النظم، وتخصيص ذكر الإيمان في جانب المشبه به واستدل له بما أخرجه ابن أبي حاتم. وابن مروديه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين قالوا. عمارة بيت الله تعالى والقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد فذكر الله تعالى خير الإيمان به سبحانه والجهاد مع نبيه صلّى الله عليه وسلّم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية، وبما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك قال: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك، فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفكّ الحاني ونحجب البيت ونسقي الحاج فانزل الله تعالى أَجَعَلْتُمْ الآية، وهذا ظاهر في أن الخطاب لهم وهم مشركون.
وإما لبعض المؤمنين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد، واستدل له بما
أخرجه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وجماعة عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل عملا لله بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله تعالى خير مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله تعالى عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله تعالى الآية إلى قوله سبحانه: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
وبما
روي من طرق أن الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والعباس، وذلك أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال له: يا عم لو هاجرت إلى المدينة فقال له: أو لست في أفضل من الهجرة وأ لست أسقي الحاج وأعمر البيت،