لما يدل عليه الخلود ودفع احتمال أن يراد منه المكث الطويل إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لا قدر بالنسبة إليه لأجور الدنيا أو للأعمال التي في مقابلته والجملة استئناف وقع تعليلا لما سبق. وذكر أبو حيان أنه تعالى لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة: الرحمة، والرضوان، والجنة.
وبدأ سبحانه بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإيمان هو السابق، وثنى تعالى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال، وثلث عزّ وجلّ بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها بدلهم بدار الكفر الجنان الدار التي هي في جواره.
وفي الحديث الصحيح يقول الله سبحانه:«يا أهل الجنة هل رضيتم فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك فيقول سبحانه: لكم عندي أفضل من ذلك فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول جل شأنه: أحل لكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا»
ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيم مقيم على هذا التوزيع في غاية اللطافة لما أن في الهجرة السفر الذي هو قطعة من العذاب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ نهي لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة فرد من المشركين لا عن موالاة طائفة منهم فإن ذلك مفهوم من النظم الكريم دلالة لا عبارة، والآية على ما روى الثعلبي عن ابن عباس نزلت في المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشيرتنا وذهبت تجاراتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا وبقينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم في ذلك. وروي عن مقاتل أنها نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا مكة نهيا عن موالاتهم.
وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى قريش يخبرهم بخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما عزم على فتح مكة،
وهذا ونحوه يقتضي أن هذه الآية نزلت قبل الفتح. واستشكل ذلك الإمام الرازي بأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة فكيف يمكن أن يكون سبب النزول ما ذكر. وأجيب بأن نزولها قبل الفتح لا ينافي كون نزول السورة بعده لأن المراد معظمها وصدرها، وعلى القول بأنها نزلت في حاطب فالمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب ويدخل حاطب في النهي عن الاتخاذ بلا شبهة إِنِ اسْتَحَبُّوا أي اختاروا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وأصروا عليه اصرارا لا يرجى معه إقلاع أصلا، ولتضمن استحب معنى ما ذكر تعدى بعلى، وتعليق النهي عن الاتخاذ بذلك لما أنه قبل ذلك ربما يؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورهم بمحاسن الدين وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي واحدا منهم، والضمير في الفعل لمراعاة لفظ الموصول وللايذان باستقلال كل واحد منهم بالاتصاف بالظلم الآتي لأن المراد تولي فرد واحد منهم ومَنْ في قوله سبحانه:
مِنْكُمْ للجنس لا للتبعيض فَأُولئِكَ أي المتولون هُمُ الظَّالِمُونَ بوضعهم الموالاة في غير موضعها فالظلم بمعناه اللغوي، وقد يراد به التجاوز والتعدي عما حد الله تعالى إن كان المراد ومن يتولهم بعد النهي، والحصر ادعائي كأن ظلم غيرهم كلا ظلم عند ظلمهم وفي ذلك من الزجر عن الموالاة ما فيه قُلْ تلوين للخطاب وأمر له صلّى الله عليه وسلّم بأن يثبت المؤمنين ويقوى عزائمهم على الانتهاء عما نهوا عنه من موالاة الآباء والاخوان ويزهدهم فيهم وفيمن يجري مجراهم ويقطع علائقهم عن زخارف الدنيا الدنية على وجه التوبيخ والترهيب أي قل يا محمد للمؤمنين إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ لم يذكر الأبناء والأزواج فيما سلف وذكرهم هنا لأن ما تقدم في الأولياء وهم أهل الرأي والمشورة والأبناء والأزواج تبع ليسوا كذلك وما هنا في المحبة وهم أحب إلى كل أحد وَعَشِيرَتُكُمْ أي ذووا قرابتكم، وقيل: عشيرة الرجل أهله الأدنون، وأيّا ما كان فذكره للتعميم والشمول وهو من