سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً الذين بقيت فيهم مسكة من الاستعداد وأثر من سلامة الفطرة وبقايا من المروءة أمر المؤمنون أن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وهي مدة تراكم الدين وتحقق الحجاب إن لم يرجعوا ويتوبوا ثم قال سبحانه بعد أن ذكر ما ذكر: الَّذِينَ آمَنُوا أي علما وَهاجَرُوا أي هجروا الرغائب الحسية والأوطان النفسية وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وهي أموال معلوماتهم ومراداتهم ومقدوراتهم، والجهاد بهذه إشارة إلى محو صفاتهم، والجهاد بالأنفس إشارة إلى فنائهم في الله تعالى أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً في التوحيد عِنْدَ اللَّهِ تعالى يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وهو ثواب الأعمال وَرِضْوانٍ وهو ثواب الصفات وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ وهو مشاهدة المحبوب الذي لا يزول وذلك جزاء الأنفس، ووجه الترتيب على هذا ظاهر وإنما تولى الله تعالى بشارتهم بنفسه عزّ وجلّ ليزدادوا حبّا له تبارك وتعالى لأن القلوب مجبولة على حب من يبشرها بالخير. ثم إنه سبحانه بين أن القرابة المعنوية والتناسب المعنوي والوصلة الحقيقية أحق بالمراعاة من الاتصال الصوري مع فقد الاتصال المعنوي واختلاف الوجهة وذم سبحانه التقيد بالمألوفات الحسية وتقديمها على المحبوب الحقيقي والتعين الأول له والسبب الأقوى للوصول إلى الحضرة وتوعد عليه بما توعد نسأل الله تعالى التوفيق إلى ما يقربنا منه إنه ولي ذلك. لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ خطاب للمؤمنين خاصة وامتنان عليهم بالنصرة على الأعداء التي يترك لها الغيور أحب الأشياء إليه، والمواطن جمع موطن وهو الموضع الذي يقيم فيه صاحبه، وأريد بها مواطن الحرب أي مقاماتها ومواقفها ومن ذلك قوله:
كم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي
والمنع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، واللام موطئة للقسم أي أقسم والله لقد نصركم الله في مواقف ووقائع كَثِيرَةٍ منها وقعة بدر التي ظهرت بها شمس الإسلام، ووقعة قريظة والنضير والحديبية وأنهاها بعضهم إلى ثمانين.
وروي أن المتوكل اشتكى شكاية شديدة فنذر أن يتصدق- إن شفاه الله تعالى- بمال كثير فلما شفي سأل العلماء عن حد الكثير فاختلفت أقوالهم فأشير إليه أن يسأل أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم وقد كان حبسه في داره فأمر أن يكتب إليه فكتب رضي الله تعالى عنه يتصدق بثمانين درهما ثم سألوه عن العلة فقرأ هذه الآية وقال: عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عطف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على المكان وعكسه جائز على ما يقتضيه كلام أبي علي ومن تبعه. نعم ظاهر كلام البعض المنع لأن كلا من الظرفين يتعلق بالفعل بلا توسط العاطف، ومتعلقات الفعل إنما يعطف بعضها على بعض إذا كانت من جنس واحد، وقال آخرون: لا منع من نسق زمان على مكان وبالعكس إلا أن الأحسن ترك العاطف في مثله. ومن منع العطف أو استحسن تركه قال: إنه معطوف بحذف المضاف أي وموطن يوم حنين، ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر.
وقد يعتبر الحذف في جانب المعطوف عليه، أي في أيام مواطن، والعطف حينئذ من عطف الخاص على العام، ومزية هذا الخاص التي أشار إليها العطف هي كون شأنه عجيبا وما وقع فيه غريبا للظفر بعد اليأس والفرج بعد الشدة إلى غير ذلك، وليس المراد بها كثرة الثواب وعظم النفع ليرد أن يوم حنين ليس بأفضل من يوم بدر الذي نالوا به القدح المعلى وفازوا فيه بالدرجات العلا فلا تتأتى فيه نكتة العطف وقيل: إن موطن اسم زمان كمقتل الحسين فالمعطوفان متجانسان وهو بعيد عن الفهم. وأوجب الزمخشري كون يَوْمَ منصوبا بمضمر والعطف من عطف جملة على جملة أي ونصركم يوم حنين، ولا يصح أن يكون ناصبه نَصَرَكُمُ المذكور لأن قوله سبحانه: إِذْ