المحيط علمه بالكليات والجزئيات لا يكون له تحقق بالكلية، وذكروا أن مثل ذلك لا يسمى شيئا بناء على أنه كما قال سيبويه ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهو يشمل الموجود والمعدوم كما حققه بعض أصحابنا كالمعتزلة وسموا ما لا يعلم بالمنفي كالشريك وكاجتماع الضدين، وحقق ذلك الشيخ إبراهيم الكوراني في رسالة مستقلة أتى فيها بالعجب العجاب، ويجوز أن يراد بالموصول أن له سبحانه شريكا والمقصود على الوجهين من ذكر أنباء الله تعالى بما لا تحقق له ولم يتعلق به علمه التهكم والهزء بهم وإلا فلا أنباء، وقوله سبحانه: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ في موضع الحال من العائد المحذوف أي بما لا يعلمه كائنا في ذلك، والمقصود منه تأكيد النفي المدلول عليه بما قبله فإنه قد جرى في العرف أن يقال عند تأكيد النفي للشيء ليس هذا في السماء ولا في الأرض لاعتقاد العامة أن كل ما يوجد إما في السماء وإما في الأرض كما هو رأي المتكلمين في كل ما سوى الله تعالى إذ هو سبحانه المعبود المنزه عن الحلول في المكان، والآيات التي ظاهرها ذلك من المتشابه والمذاهب فيه شهيرة، وهذا إذا أريد بالسماء والأرض جهتا العلو والسفل، وقيل: الكلام إلزامي لزعم المخاطبين الكافرين أن الأمر كذلك، وقيل: إن معنى الآية أتخبرونه تعالى بشريك أو شفيع لا يعلم شيئا في السماوات ولا في الأرض كما في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النحل: ٧٣] وليس بشيء سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم المستلزم لتلك المقالة الباطلة أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شركاء، وقرىء «أتنبئون» بالتخفيف، وقرأ حمزة، والكسائي تشركون بتاء الخطاب على أنه من جملة القول المأمور به، وعلى الأول هو اعتراض تذييلي من جهته سبحانه وتعالى.
وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً أي وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف، وروي هذا عن ابن عباس، والسدي، ومجاهد، والجبائي، وأبي مسلم، ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «وما كان الناس إلا أمة واحدة على هدى» وذلك من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن قتل قابيل هابيل، وقيل: إلى زمن إدريس عليه الصلاة والسلام، وقيل: إلى زمن نوح عليه الصلاة والسلام، وكانوا عشرة قرون، وقيل:
كانوا كذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر، وقيل: من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أن ظهر عمرو بن لحي عبادة الأصنام وهو المروي عن عطاء، وعليه فالمراد من النَّاسُ العرب خاصة وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكي منهم من الهنات وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك.
فَاخْتَلَفُوا بأن كفر بعضهم وثبت الآخرون على ما هم عليه فخالف كل من الفريقين الآخر، والفاء للتعقيب وهي لا تنافي امتداد زمان الاتفاق إذ المراد بيان وقوع الاختلاف عقيب انصرام مدة الاتفاق لا عقيب حدوثه وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير القضاء بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بأن ينزل عليهم آيات ملجئة إلى اتباع الحق ورفع الاختلاف أو بأن يهلك المبطل ويبقى المحق، وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية والدلالة على الاستمرار، ووجه ارتباط الآية بما قبلها أنها كالتأكيد لما أشار إليه من أن التوحيد هو الدين الحق حيث أفادت أنه ملة قديمة اجتمعت عليها الأمم قاطبة وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة خلافا للجمهور وشقا لعصا الجماعة، وقيل: وجه ذلك أنه سبحانه بين فيما قبل فساد القوم بعبادة الأصنام وبين في هذه أن هذا المذهب ليس مذهبا للعرب من أول الأمر بل كانوا على الدين الحق الخالي عن عبادة الأصنام وإنما حدثت فيهم عبادتها بتسويل الشياطين.