الحكم عند آخر، والإظهار بعد في مقام الإضمار للإيذان بكمال قبح افترائهم، وتقديم الجار والمجرور للقصر مطلقا في رأي ولمراعاة الفواصل على الوجه الأول وللقصر على الوجه الثاني في آخر.
واستدل المعتزلة بالآية على أن الحرام ليس برزق ولا دليل لهم فيها على ما ذكرناه لأن المقدر للانتفاع هو الحلال فيكون المذكور هنا قسما من الرزق وهو شامل للحلال والحرام والكفرة إنما أخطؤوا في جعل بعض الحلال حراما، ومن جعل أهل السنة نظيرا لهم في جعلهم الرزق مطلقا منقسما إلى قسمين فقد أعظم الفرية وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ كلام مسوق من جهته تعالى لبيان هول ما سيلقونه غير داخل تحت القول المأمور به، والتعبير عنهم بالموصول لقطع احتمال الشق الأول من الترديد والتسجيل عليهم بالافتراء، وزيادة الكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك لإظهار كمال قبح ما افتعلوا وكونه كذبا في اعتقادهم أيضا، وما استفهامية مبتدأ وظَنُّ خبرها هو مصدر مضاف إلى فاعله ومفعولاه محذوفان.
وقوله سبحانه: يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف لنفس الظن لا بيفترون لعدم صحته معنى ولا بمقدر لأن التقدير خلاف الظاهر، أي أي شيء ظنهم في ذلك اليوم أني فاعل بهم، والمقصود التهديد والوعيد، ويدل على تعلقه بالظن قراءة عيسى بن عمر وَما ظَنُّ بصيغة الماضي وما في هذه القراءة بمعنى الظن في محل نصب على المصدرية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع وأكثر أحوال القيامة يعبر عنها بذلك في القرآن لما ذكر، والعمل في الظرف المستقبل لا يمنع لتصييره الفعل نصا في الاستقبال التجوز المذكور لأنه يقدر لتحققه أيضا ماضيا، وقيل: الظرف متعلق بما يتعلق به ظنهم اليوم من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلا له ولما يقع فيه من الأهوال لمكان وضوح أمره في التحقق والتقرر منزلة المسلم عندهم، أي أي شيء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون جزاء يسيرا ولذلك ما يفعلون يفعلون كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي، والآية السابقة قيل متصلة بقوله سبحانه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [يونس: ٣١] إلخ كأنه قيل: حيث أقروا أنه سبحانه الرازق قل لهم أرأيتم ما أنزل الله إلخ ونقل ذلك عن أبي مسلم، وقيل: بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إلخ، وذلك أنه جل شأنه لما وصف القرآن بما وصفه وأمر نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يرغب باغتنام ما فيه عقب ذلك بذكر مخالفتهم لما جاء به وتحريمهم ما أحل، وقيل: إنها متصلة بالآيات الناعية عليهم سوء اعتقادهم كأنه سبحانه بعد أن نعي عليهم أصولهم بين بطلان فروعهم، ولعل خير الثلاثة وسطها.
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ أي عظيم لا يقدر قدره ولا يكتنه كنهه عَلَى النَّاسِ جميعا حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبين لهم ما لا تستقل عقولهم بإدراكه وأرشدهم إلى ما يهمهم من أمر المعاش والمعاد ورغبهم ورهبهم وشرح لهم الأحوال وما يلقاه الحائد عن الرشاد من الأهوال.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ذلك الفضل فلا ينتفعون به، ولعل الجملة تذييل لما سبق مقرر لمضمونه.
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي في أمر معتنى به، من شأنه بالهمز كسأله إذا قصده وقد تبدل همزته ألفا، وهو في الأصل مصدر وقد أريد المفعول وَما تَتْلُوا مِنْهُ الضمير المجرور للشأن والتلاوة أعظم شؤونه صلّى الله عليه وسلم ولذا خصت بالذكر أو للتنزيل، والإضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه أو لله عز وجل، ومِنْ قيل تبعيضية على الاحتمالين الأولين وابتدائية على الثالث والتي في قوله سبحانه: مِنْ قُرْآنٍ زائدة لتأكيد النفي على جميع التقادير وإلى ذلك ذهب القطب. وقال الطيبي: إن مِنْ الأولى على الاحتمال الأخير ابتدائية والثانية مزيدة، وعلى الاحتمال الأولى الأولى للتبعيض والثانية للبيان، وعلى الثاني الأولى ابتدائية والثانية للبيان.