للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالمراد بالقرية أهلها مجازا شائعا والقرينة هنا أظهر من أن تخفى، وقوله تبارك وتعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء منقطع كما قال الزجاج وسيبويه والكسائي. وأكثر النحاة أي لكن قوم يونس لَمَّا آمَنُوا عند ما رأوا أمارات العذاب ولم يؤخروا إلى حلوله كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي الذل والهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بعد ما أظلهم وكاد ينزل بهم وَمَتَّعْناهُمْ بمتاع الدنيا بعد كشف العذاب عنهم إِلى حِينٍ أي زمان من الدهر مقدر لهم في علم الله تعالى. ونقل عن ابن عباس أن المراد إلى يوم القيامة فهم اليوم أحياء إلا أن الله تعالى سترهم عن الناس على حد ما يقال في الخضر عليه السلام، ورأيت في بعض الكتب ما يوافقه إلا أنه ذكر فيه أنهم يظهرون أيام المهدي ويكونون من جملة أنصاره ثم يموتون والكل مما لا صحة له. وقال آخرون: الاستثناء متصل، ويراد من القرية أهلها المشرفون على الهلاك.

وقيل: العاصون ويعتبر النفي الذي يشعر به التحضيض وهو مشعر بالأمر أيضا ولذا جعلوه في حكمه إلا أنه لا يصح اعتباره على تقدير الاتصال لما يلزمه من كون الإيمان من المستثنين غير مطلوب وهو غير مطلوب بل فاسد، وقيل: لا مانع من ذلك على ذلك التقدير لأن أهل القرى محضوضون على الإيمان النافع وليس قوم يونس محضوضين عليه لأنهم آمنوا، والذوق يأبى إلا اعتبار النفي فقط حال اعتبار الاتصال» ويكون قوله سبحانه: لَمَّا آمَنُوا استئنافا لبيان نفع إيمانهم. وقرىء «إلا قوم» بالرفع على البدل من قرية المراد بها أهلها، وأيد بذلك القول بالاتصال واعتبار النفي لأن البدل لا يكون إلا في غير الموجب، وخرج بعضهم هذه القراءة على أن إِلَّا بمعنى غير وهي صفة ظهر إعرابها فيما بعدها كما في قوله على رأي:

وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان

وظاهر كلامهم أن الاستثناء مطلقا من قرية، وعن الزمخشري أنه على الأول من القرية لا من الضمير في آمَنَتْ وعلل بأن المنقطع بمعنى لكن فيتوسط بين الكلامين المتغايرين فلا يعتمد ما لا يستقل ولأنه لا مدخل للوصف أعني الإيمان في المستثنى منه فالاستثناء عن أصل الكلام، وأما على الثاني فهو استثناء من الضمير من حيث المعنى جعل في اللفظ منه أو من القرية إذ لا فرق في قولك: كان القوم منطلقين إلا زيدا بين جعله من الاسم أو من الضمير في الخبر لأن الحكم إنما يتم بالخبر، وإنما الفرق في نحو ضربت القوم العالمين إلا زيدا، ثم قال: ونظير هذا في الوجهين قوله تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ [الحجر: ٥٨، ٥٩] ووجه ذلك ظاهر. وفي الكشف أن وجه الشبه اختلاف معنى الهلاك على الوجهين كاختلاف معنى الإرسال هنالك على الوجهين، وكأنه عنى بالهلاك المأخوذ قيدا في قوله فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها فتدبر. وفي يُونُسَ لغات تثليث النون مهموزا وغير مهموز والمتواتر منها الضم بلا همز.

وكان من قصة هؤلاء القوم على ما روي عن غير واحد أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فدعاهم إلى الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوه فأخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من جوف الليل فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم ليس بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، وجاء أنه غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وفرقوا بين الوالدة وولدها من الناس

<<  <  ج: ص:  >  >>